Tuesday, October 7, 2008

رواية خليج الطبالة / العربى عبدالوهاب

اختـفـــاء

الكلب عاد من هناك يحجل بساقه الخلفية المعلقة كذبيحة . ربما انكسرت بفعل ضغط أقدامهم بغل شديد على رأسه مخافة انكشاف أمرهم ، ولما لاحقهم ضربوه بعصيهم على ساقه بعد عودته مسحتُ على رأسه ،واحتضنته .. نبح بعواء منكسر .وظل يحجل أمامى ويستند برأسه على الجدار ، برغم ألمه كان يسحبنى باتجاه الخليج يشد طرف جلبابى بين أسنانه حتى لا أنفلت منه كما انفلتوا منه فرادى عائدين من طريق الرشاح آخذين خليج الطبالة فى استدارته حتى شارع داير الناحية .. بعد سؤالهم "لحفيظة السمااك " الذى أقسم بالطلاق أنه لم ير شيئا ، ولم يمر عليه أحد بتاتا هذه الليلة : يعنى أكفر يا ناس .
:كنا شايفين ضلهم ع الرشاح يا حفيظة .. زانت قلت روحوا لى جاى .. سمعناك يا حفبظة ، وبأعلى ما ف عزمنا ، قلنا : جيتك يا واد .. جيتك"
لكنه أشاح بيده وهبط مسرعا إلى قاع الرشاح كى يجذب شبكته المزدحمة بالأسماك ورائحة الطُعم النتن كانت تتسرب للأنوف .
فيما بعد
عرفنا أن خاله سماعين الجمل صفعه على وجهه بثقل يده المرزبة : يا ابن الكلب تكشف سر خالك .
وجم حفيظة عند كشف اللثام ؛ ووضوح وجه خاله بعينيه الناريتين .
تقول الناس إن وجه حفيظة تلك الليلة كان أحمرا ، نحادثه فيرتجف ويهبط تجاه الشبكة ثم ينظر للسماء يقولون ألم تقل : جيتك يا وله.. الجاموسة أهى ؟ .
وينكر حفيظة ؛
ليلتها تركنى الكلب وانشغلت عنه باللعب مع العيال .. ليلتها كان الرعب يترصدنى منذ صحوت على صرخة أمى وأبى العائد من دورة المياه يستند على الحائط ولمبة الجاز "تُوَجوج"؛ حين صحت أختى الرضيعة واخترق صراخ أمى هجعة طاروط ، أفقنا من نومنا وتجمعنا عند أمام الدار ، استباحت الناس دارنا عبر" النقب" الصغير الذى حفره اللصوص فى "المندرة" .
ليلتها عدت مع العيال وراء شباب ورجال ونساء وعيال طاروط كان القمر يبربش بعين واحدة .
مازال الكلب يجذبنى فأتبعه ويتبعنا عمى ثم ينضم له صاحباه .
كانت ساقه المكسورة ، تهتز مع مشيته الوئيدة ، هزنى التعب فاستدرت لكن عمى لكزنى فى كتفى فواصلت السير وراء الكلب ولم يتوقف إلا بانقطاع آثار الأقدام .
على مرمى العين بدت دور عزبة "ادوار" المتناثرة فضية ، يغلفها ضباب خفيف بفعل الشمس وأشعتها الأولى فى أعيننا . أشار صاحب عمى بإصبعه تجاه العزبة وقال : الجاموسة هنا . هز عمى رأسه آسفا ثم انحنى عليه ومسح رأسه ولاطفه ثم انحنى أكثر وأكثر .. تحسس ساقه المعلقة وباس رأسه.
كانوا بعد خمسين متر تقريبا سيصلون إلى خليج الطبالة ،كانوا ينهبون الأرض وبكل قوة يجرها أحدهم من خطمها . ويدفعها الآخرون من الخلف دفعا وضربا ؛ تتناهى إلى أسماعهم بعض الأصوات التى تنم عن موكب صغير يتحرك من أهل البلد ، مما أثار القلق والارتعاش بأوصالهم و ساعد أحدهم على إصدار أمره " الخليج قرب يا ولا .. افتح خطوتك .. عل الآخر يا ابن العبيطة " .. واخترقت الكلمات آذان زاهر ابن سلامة اللحاد المشدود إلى الأوتاد فى محبسه منذ عصر أمس بزريبة الحاج أبو شامية ( المقابلة للخليج من الجهة الأخرى )
كان زاهر وقتئذ تتقاذفه عواصف القلق وصلف أبى شامية وغل قديم أسود لن تزحزحه أيام العمدة ؛ لأنها مرت كالطيف ، وتركت ساقين مكبلتين طوال ليلة أمس من يساعدها الآن كى تصل بالكاد إلى مدافن البلدة ، ليعلن بأن زاهر ابن سلامة اللحاد قتل أو اغتصب أو مات ، وهو الآن محمول فوق ساقين أصابهما العرج مدى الحياة .
أبو شامية والعمدة الصغير والكبراء أفاقوا مارد القهر من غيبوبته بقوة .. هاهم يتبخترون كطواويس ..بأقدامهم الثقيلة يهرسون عظامنا دونما يرتجف لهم جفن .. . أنت من صدقت شعارات العمدة الكبير حين رأيت الأجراء يتملكون الأرض .. وحين دخلت المدرسة بالمجان ، ظن أبوك اللحاد أن هامتك ستطال هامة النخيل ؛ ظن ـ الواهم ـ أن للنخيل ظل ، سوف يستظل به ، فى أخر أيامه . راح اللحاد بظنونه الحالمة ؛ كيف يا طاروط تفتكين بالأحباء بكل هذا الجبروت !!
أليس من حقى أن أتزوج ..ممن أحب سواء كانت بنت الأجراء أو بنت العمدة ـألم يعلموننا فى المدارس أن الزمان تغير ـ هى من هفا القلب إلى محياها وحلقت بنا الحياة فركبنا قواديسها .. فى الأتوبيس الدائرى الأصفر.. أدفع لها تذكرة الذهاب ، وفى شوارعك يا زقازيق نسير، نتبادل ينقل دفء الأصابع ، قشعريرة القلب ..نهدى الحلم للريح وللوجوه الغريبة ؛ لم أعلم بأن طاروط فى الخفاء تتربص بطائرين صغيرين لما يبزغ لهما جناحان . وسوف تمد منقارها الحاد ، فى عصر يوم ،كالأمس ، لتنتزع الزغب النابت فى القلب "وتنتفه" ريشة ريشة .
كان يظن أن قيده لى فى الزريبة ، مشدودا الى الحبال كبهيمة ، سوف يفت فى عضدى .. ليس الخوف يا كبير طاروط ، هو قاتلى ..بل نظرة آمال حين طلت على بوجهها المتورم. كأنما أصابها داء إثر اقترانها بى ، داء لا فكااك منه إلا بالموت .. هى قاتلتى .
حين لامست بشفتيها قدمى ، وأنا مشدود إلى الأوتاد ، أحستْ قدمى بدمعتها الساخنة ، دمعتها هى آخر ما لامسنى ورجاءها لى " أبويا هيقتلك " ... " متخافيش ، الخوف غول مرعب مستقر فى قعر عينيها .. زاهر وآمال ..
فى فضاء الزقازيق ..نحلم بالبيت الصغير والعيال .. والآن ..مقيدين الآن إلى الأوتاد
جرحنا يا آمال لن تدفنه طاروط تحت وحلها
ولن أنسى تلك الليلة ما حييت . دمعتك الدافئة .. سرعان ما ابتردت ، برودتها حارقة ، توخر المسام ، كأنها تسقط الآن .. وكل آن .
لماذا تتفجرين يا طروط ككرة النار فى حلقى ؟
* * *
كان الفجر ، يتهادى كموج ناعس .. لا يحفل بى ، يحمل رسوما ملفوفة على الورق ، ومختومة بالشمع ، خطتها يد الشيخ " نبوى تِرَّا " صاحب الأحجبة ـ "والعملات" ـ والقرابين المشوية من لحوم أنواع متباينة من الطيور ؛ ومن أكباد حيوانات تعيش فى حظائر وأخرى فى الصحراء والكهوف .. بخور وشهقات وعطس .. وانحناء قليل فى الظهر ، ويميل ووحهه يميل إلى الأمام ـ مطلا ـ على جمرات حمراء .. ثم يعتدل للوراء بعد تأمل طويل مدققاً فى أعين القادمين ..
تلك المبالغات هى البوابة السحرية لفض الغلالة الكثيفة لاضطراب الحياة خارج الدار ـ المعروفة جداً ـ "بطاروط"..
تقف الدار الطينية الواطئة فى بطن القرية بصلابة منذ أمد بعيد .
يغفو بعضاً من الوقت بإقفال عين وفتح الأخرى كذئب .. انطفأت لمبة الجاز السهارى وهو الآن فى فراشه قرير العين يحصى غنائمه .. يتعرى بشبق مجنون فى حضن امرأته التى تكافئه على مهارته ، ونجابته .. فى جمع كل تلك اللحوم والأحلام والأوهام .. ليجعلهم وليمة لحفرته المحتشدة بجمرات حمراء كقميصها المتقد" . لم تكن الكهرباء قد وصلت إلى دارنا ؛ ولو وصلت وعبرته ما أعارها بالاً .
* * *
" النهار لم يعلن عن نفسه بوضوح ، تخب قدما ابن اللحاد فى تراب طاروط حيث الشوارع متعرجة ، تنفتح على حارات ضيقة .. تتلاصق دورها القديمة كأنما تحتمى ـ بتلاصقها ـ من السقوط .. تفر القطط .. تنبح الكلاب السوداء منذ أول الليل متشاحنة . الغبار يتكاثف على صدره ، وعلى سلسلة الحديد المعلقة بقفلها فى دوار العمدة ، مُكَبِلَةً الباب الواقف فى شموخ .. رغم أنه لم يزيَّق منذ زمن .. آلام قديمة تفر منها الروح .. لما أصاب أهل طاروط العلم وراجعتهم روح الفكاهة ، أطلقوا عليه التليفون ـ تلك حكاية قديمة ـ بانتقال التليفون تنتقل العمودية ـ إذا جاز لها حق الانتقال ـ المعروف أن الدوار القديم أحيل إلى الاستيداع مع عمدته الكبير .
المعروف أيضاً أن العمدة الكبير اتخذ من الدوار القديم ذو الباب الخشبى العتيق مقراً للعمودية بسبب اتساع الحجرات والتليفون الملحق به.. والصرخات المرعوبة وولولة الفلاحات أمام الدوار وقذف العيال بالطوب للخفراء ذلك زمن عبر بكل عنفه ورحابته .. آلامه وانكساراته .. زهوه وشموخه .
البيت الجديد متعدد الطوابق .. من أول بيوتات طاروط التى بنيت من الحجر .. لا من الطين . كبقية دور القرية ، بناه العمدة الصغير بنفسه.. ثم بنى الحاج عبد الرحمن أبو شامية وسالم الحمَّار ابن الشيخ سليم ثم السيد أبو عبد العزيز وبعض أكابر طاروط بيوتهم الحجرية تقليداً لبيت العمدة الحالي / الصغير .. الذى لا يضاهيه بيت ـ ومن يقدر على التحدث عن داره أو ماشيته أو غيطانه من أكابر القوم فى مجلس العمدة ـ تتنوع ألوانه بين الفوشيا والأخضر الصارخ .. يصعد القادمون عدة سلالم رخامية باردة ، وإذا تلفت ، يرى عن يمينه جنينة متنوعة الزهور تزكم الأنوف بروائحها ، منسقة على شكل الحدائق العريقة لبعض السرايات ..

لم أعرف ـ كما لا يعرف أحد ـ أين يقع السلاحليك الجديد .. داخل هذا البناء .. فالدوار القديم كان معروفاً بتفاصيله الدقيقة ، وكثيراً ما تتردد عنه نوادر الحكايات ..
قيل بأن الصغير لقب اختاره العمدة لنفسه للتفرقة بينه وبين الكبير ( ربما لقصر طوله ونحافته ، ورأسه الصلعاء ) .. وأن صلة قرابة تربطه بالعمدة الكبير وأنه شيد البيت الجديد ، ولونه بتلك الألوان جذبـاً للأبصار ولتخلب الألبـاب ـ عافاه الله ـ هو من أعلن هدم الدوار القديم .
وقال المقربون أنه لا يطيق أن يرى ذبابة ترش بالجاز ـ فلم يكن وقتها قد ظهرالبيروسول والكفرسول وكل عائلة سول ـ أو يرى صرصوراً يفرك بقدم.. قيل تميع نفسه كامرأة حامل إذا رأى العيال يتقاذفون الفئران ممسكين بأذيالها ، يخبطون بعضهم ، فيقشعر بدنه . وأنه أفاق ذات صباح ـ وكان قد نام بعد تعب بحضن "جوزته" الصغيرة ـ فطلب المفسرين . وقص حلمه .. فقالوا بصوت هامس بشوش:[ سوف تنال ألقاباً ما بعدها ألقاب .. وتعيش عمراً مديداً ] . لما سأل عن بعض ألقابه ومعانيها قالوا بعد تداول النظرات وحساب التكهنات وإعادة وزن الأمور حسب الواجب والممكن ، وبعد ضرب الأخماس فى الأسداس .. والاستعانة ببركات سيدى أبى منصور : من ألقابك العظيمة . الفاتح .. والمؤمن .. والثعلب .. ورب العائلة الطاروطية .. و ....
قال : كفى . ثم دخل فى شروده وأطال حتى تلبس الخوف أظافر أقدامهم
· * *
[ أنا قلبى كورة والفراودة أكــم
ياما اتنطح وانشاط وياما اتعكــم
واقول له كله ينتهى فى الميعـاد
يقول بساعتك ولاّ ساعة الحكم ]
· * *
عندما حط الحزن على قلوبهم . كانوا ينظرون بين الحين والآخر لأبى الذى استكان لخيبة مساعيهم . وقال لنفسه أقعدتنى الدمامل وساقى متورمة .. ولم يتمكن أحد من اللحاق بهم .. إن كانت تلك مشيئتك فلا راد لقضائك.. وان كان اختبارا فأنا بالصبر أولى .. يارب لك وحدك أشكو ضعفى وهوانى على اللصوص ...
كان " صديق " ابن شيخ الخفراء ، يشرب الشاى الذى أعدته أمى للرجال العائدين مع أول شعاع للشمس بدون الجاموسة وهو ناظر لأول النهار " يا الله .. كم أنت رحيم بنا إذ ألهمتنا الدروب التى قطعناها خلال مشاوير بحثنا عنها ، إذ أمتّنا من أجلها ، هى بركتنا ، تعويذة العشق فى قلوبنا ، الشيخ نبوى يشهد بذلك ، وتشهد علينا أرجلنا حيث مشت إليها وسط أوحال وحفر ؛ وهو لم يزل يلف لنا العُملات ويربط لنا الأحجبة .. يحشوها بحبات الذرة والمستكة ، وبذور السفرجل والفلفل وبعر الماعز .. خطوط سوداء متشابكة ، قد رُسمت على أوراق مطوية ، تنام فى حضن الحبات ، تنغلق عليها أقمشة غريبة .. يعلقها بصدورنا .. تنام تحت المخدات .. تستحم بها النساء قبيل المضاجعة ، فتأتى العيال بعد تسعة أشهر بالتمام والكمال والقمر فى بهائه ، عيال عُراة ، حُفاة ، عيال نائمون .. طائشون .. مستكينون .. قتلة .. مطاردون .. وخونة .
كم أنت لطيف بعبادك يا رب العباد
إذ ألهمتهم محبة ناقة صالح وهدهد سليمان وحوت يونس وعجل موسى وجاموسة طاروط ، هى سُرَّة الكون ، ومهبط وداعته .. محط أنظاره ومهبط وحيه الجديد .
· * *
فى ذلك الصباح انحنى المأمور متقزماً حتى صار بحجم "النقب" ، عبره مرة ومرة ثم ضرب كفاً بكف لغياب شيخ الخفراء . رد عبد الله العطار والقمحاوى عن شيخ الخفراء غيبته .. ذلك الصباح عادت أمى من دوَّار العمدة الكبير بعدما أقسمت للمأمور عند " أخذ سؤالها " بأنها : تستطيع استخراج الجاموسة ولو كانت بين مائة جاموسة أخرى .
* * *
* شـائعـات
(1) سماعين الجمل يعشق زوجة العمدة ،
و يسرق الجاموسة بغرض إزاحته
من العمودية .
(2) محمد أبو عابد شيخ الخفراء شُل
الدليل .
[ أجب عن هذا السؤال ]
لماذا لم يخرج أبو عابد من داره منذ سرقة الجاموسة؟‍
(3) فتحى الأقرع منذ حطَّ بطاروط ويده طويلة ، ويعمل لحساب الغرابوة ؟؟!!!
(4) عبد الحليم باشا يتصل بأولاد الليل . ألم يكن أبوه شيخ منسر .، معم ؟؟
(5) أبو شنب وعبد الحليم باشا وفتحى الأقرع . لوحظ سيرهم عند الرشاح قبيل المغيب.
(6) فلفل شقيق أبو شنب ـ ولدى فايزة أم هاشم ـ رفت من الجيش لسوء السلوك .
(7) الشيخ عبده سيموت كمداً ، بسبب سرقة جاموسته أم قورة بيضاء .
إذن لماذا لم يخرج ـ حتى الآن ـ من داره ؟
( لله فى خلقه شئون )
( يلعن أبوها بلد ... )
· * *
عندما سمعت أمى خبطا على الباب .. نهضت من وسط الدار وأطلقت ذكر البط فتحرك على مهل الى عابرا باب الوسط الخشبى
ثم قالت :
ـ مين
ـ أنا سماعين الجمل
ـ ادخل يا عم سماعين
تلفت حواليه وقال
ـ أملى القلة
ـ إملى
ـ الشيخ فين ..يا أم وحيد
ـ مريح شوية
ـ تعبان لا سمح الله
ـ طالع له خُراج فى فخده
هز رأسه وتلصصت عيناه على باب الوسط .
وأضافت كان يتبرم منذ الدخول .. خفير تندب فى عينه رصاصة .. أدار الطلمبة ـ وسط الدار ـ ارتوى ، ثم حمل القلة وسأل عن الشيخ وعن الجاموسة وأحوالها فى الصيف الحار ولما لم يجد إجابة شافية انصرف .
فى اليوم التالى .
أمسك كوب الشاى الساخن وقعد وسط الدار مع زوجى الشيخ عبده .. ضربتْ عيناه على باب الوسط وثرثر رغم تعب الشيخ ، عن الأرض والوقت ، ثم مصاعب العمل كخفير ، وتعطل أشغاله . يقول : لولا وقعتى الغبرا فى فى شغلانة الخفارة كنت عرفت أراعى .. الأرض كويس .. الأرض والحمد لله تكفى وزيادة .
يهز زوجى رأسه بلطف وابتسامة سمحة .
"فكيت المعزة من المربط .. الشمس ضربته ، ودخلتها الشونة .."
فتحت باب الوسط .. الجاموسة عندما رأتها أطلقت خواراً هادئاً .. قالت لها : جعانة .. هزت ذيلها وتبعتها برأسها وقورتها البيضاء ..
[ أطلقت أمى آهة متحسرة ، ولم أنس الدموع حين لمعت بعينيها لدى سماعها ذكر أم قورة بيضاء .. يا الله .. تلك الدموع الغالية لا تهل إلا من أجل الغالية ؛
تكمل أمى للضابط ، واصفة ] .
ذات رقبة ممدودة .. إذا سمعت خوارها لا تفرق بين علوه وانخفاضه .. طلة القمر فى قورتها البيضاء .. سواد الليل من سواد عينها ،ظلف رجلها الورَّانية " اليمين مرفوعا لأعلى كأنه مدقوق كالعمود .
شغلنى أمر سماعين الجمل .. وسبب شكوك أمى وظنها باشتراكه فى السرقة قلت "كيف يسرق رجل هب واقفا عند سماعة آذان الظهر" جذب حذاءه الميرى ، ثم صافح يد أبى الذى يحاول النهوض ولم يقدر
:متآخذنيش يا عم سماعين
: ألف سلامة يا شيخ .
أعادت أمى كل هذا على مسامع المأمور
ترفع وجهى فى تلك الليلة .. ترانى شارداً .. تحتضننى باكية ..تظن أن شرودى بسبب الحزن على ضياع الجاموسة
تقول : يرضيك كده يارب
· * *
ضباب ثقيل ، يخفى بيوت الطين وبيوتا ذات مقاعد ، وأخرى واطئة غائصة تتحوط رؤوسها عيدان القش والذرة والقطن النازل على قورة تلك البيوت والناس والحيوانات ، ونداوة الصباح تمنح فراشات الحياة فرصة الانطلاق ، تغزو الذكريات السوداء قلب ابن اللحاد .. يحس بنفسه خفيفاً، طائراً ، بلا معنى ، كأنه مرهون للغموض وللبيوت وشواشى الذرة الخضراء فى الغيطان بوشيشها ، واقفة مهفهفة .. عند المربط والمدود الطينى توقفت قدماه .. ما زال الخص قائماً عند رأس الأرض .. عروق الخشب تنز بحبات الندى" أترى الخص حزينا ، يدمع ! لمن يدمع الخص. للجاموسة أم للشيخ ".. وخزه السؤال ؛ أسرقت الجاموسة ، أم اختفت ؟؟"
قال : تظهر .. تختفى .. كما تريد .. لم تعد جاموسة مجردة .. يقولون بأنها بارك الله لنا فيها لم تأكل "طراطيف" الذرة .. لم ينز من مؤخرتها الروث على التراب .. لم تتلقفه يد النساء كالعادة ـ لأن كوانين الطهى لم تعد مشتعلة ولم تعد أم قورة كما ذكرها "النحيلى" ونوّه عنها "الملط" ودار بالحكايات عنها " خليل الشاعر" يقولون : لا تأكل سوى الحشائش النابتة ـ شيطانى ـ على حواف الترع والخلجان ، والعلف الصافى بدون "ردة" .. هل هى " عُشر " ؟ أم سرقت لأنها "عِشَار" .. أم لأنى لم أسمع يوماً بغيرها حتى الآن .. مات العمدة الكبير منذ أشهر قلائل .. صارت طاروط بلا عمدة لأسابيع.. تخثر اللبن الرائب . كما تخثرت الآمال والزروع .
تلك الجاموسة لم تدر فى مدارات السواقى أبداً .. جاموسة ذات مدار واحد إلى الأمام ؛ ذات قورة بيضاء ، ذات حلم برأس الولد "وحيد" ـ أنا ـ الذى تمنى أن يضربها يوماً "بالفرقلة" حين يفتح أباه "قطع" القناية . ويتدفق الماء .. من سحركم بها ؟!!العمدة الصغير أم شيخ الخفراء أم شيخ البلد / "محمد ى الجزار" . أم" عبد الرحمن أبو شامية" ؟؟!!يا ناس جاموسة لا تأكل البرسيم .. لا تنام سوى واقفة .. لبنها مائل للاحمرار .. لا تنام فى زرائب البهائم المعتادة .. زريبتها إسمنتية ذات فتحة للصرف تصل إلى مجرور ـ قبل أن يقدم الفلاحون على تحويل زرائبهم إلى الاسمنت ، بسنوات ، وسنوات ـ وقيل لنا : تلك نصيحة الأشقر للشيخ حتى ترتاح .. سوق الأربعاء فيه البهائم كثيرة لماذا يا شيخ عبده تشترى من "الأشقر السمسار" بسوق الأربعاء جاموسة كتلك ؟ لما استغرب الشيخ وسأل عن سر الزريبة والصرف قيل:حتى لا تنقل الأمراض .. لبنها صحى للرضيع وظلفها العمودى ؛ متعامد على مدار السرطان ، تلك حسابات للنجوم لا يعرفها سوى الشيخ "نبوي ترَّا" ولم يسأل أبى ؛ فقد كان الحر قائظاً والأشقر متعجلاً ، متأففاً، والعرق يجعل المحتاج راضياً ولو بجاموسة عرجاء ، إذا توافرت النية الحسنة والاتكال على الله وعلى الرزق الحلال . كان على الجاموسة أن تحضر إلى طاروط ، وأن يسأل كل عابر مأخوذ بجمالها عن السعر ونصائح الأشقر، والعرق الذى ينز من الأجساد فتنهب الطريق نحو الدار والظل .
· * *
لما شرب المأمور الشاى بدوار العمدة ، وبحث فى سجلات القرية وجد أن حالات السرقة كثرت ، وخاصة سرقة البهائم .. كان يتأمل طرائق السرقة التى تشير بقوة إلى لصوص بعينهم .. ووسائل ثابتة بما يعنى الدربة والتمرس ، فى السرقة ؛ وعن توزيع الخفراء وسبب غياب "سماعين الجمل" أثناء الصافرة ( كان أبى قد ـ أبلغ العطار النائم مسترخيا فى داره ـ بسرقة الجاموسة ، فخبط على بيديه على ساقيه المرتجفتين وعاين النقب .. كان أبى يتحامل على الحيطان فالجرح لم يندمل بعد والدمامل استوطنت ساق أبى ) ولم يستبعد المأمور فتحى الأقرع لتشريفه المركز منذ أيام .
كما لم يستبعد موضوع العمودية الأخير والصراع مع آل عزبة الغربى الذى كاد أن يؤدى إلى جرائم قتل أحينا ، وسرقة وتسمم .....إلخ
كانت التحريات تشير إلى وصول " عوض جزر " قاتل "شلشلمون " المحترف ، لذلك لابد أن ينظر للموضوع له على مستويين
الأول سرقة عادية نفذها ـ كالعادة ـ أولاد الليل
ثانيا ـ إمكانية ارتباط السرقة بالتحولات الحادثة مؤخرا بالقرية وتولى العمدة الصغيرة بدلا من مرشح عزبة الغربى .. واقتراب إحالة " أبو عابد " شيخ الخفراء للمعاش .
مع الأخذ فى الاعتبار بأمر المشتبه بهم "كمسلم أو عويضه "سائق الجرار وابن عزبة الغربى ، وجار الشيخ عبده ، وحفيظة السماك .
أحس العمدة أن الشائعات أثرت على تقدير المأمور للأمر
وتفكير المأمور بصوت عالِ مع الضابط لم يضف سوى احتمالات كانت تلقى بتبعاتها على العمدة وتعبر عن تقصيره الواضح فى العمل
هز العمدة رأسه وقال لنفسه للانتخابات حسابات أخرى
ولك ياعزبة الغربى معى وقفة قريبة
* * *
قال زاهر ابن "سلامة اللحاد" والدور نائمة فى ذلك الصباح ..
أمس كان خليج الطبالة غامضاً كأنه تواطأ مع أبى شامية والمأذون علىَّ ..وجعلنى أحمل طبلتى وأدور مع الطبالين بطاروط أجمع الحبوب فى مواسم الحصاد ، أركب حمارة عرجاء بمساعدة أبى سلامة اللحاد فى جمع العوايد ، أقود فريقاً يهش الثعابين والحيات الرابضة بالحلفاء .. كان القمر فرخاً صغيراً يرقبنا ولم أفطن إلى الأسماك التى اقتربت من سطح الماء تتسمع النقر . لم ألحظ أن الثعابين طلعت من الحلفاء وزحفت فوق الجسر ؛ حتى أصبحت وجهاً لوجه ، كنت قائداً للفريق ولم أتمكن من إيقاف طابور الطبالين الذى يتبعنى .