Wednesday, March 4, 2009

صور من مناقشة رواية .. إنهم يموتون فى الربيع .. بفرع اتحاد الكتاب بالزقازيق







من اليمين اللأستاذ / إبراهيم حمزة ـ الأديب / محمد عبدالله الهادى ـ الدكتور شريف الجيار ـ العربى عبدالوهاب

ليلة دافئة ومناقشة جادة باتحاد كتاب الزقازيق, العربى عبد الوهاب قدم عملا نادر الجمال

تغطيــة لمناقشة رواية .. إنهم يموتون فى الربيع
كتبها الصديق / إبراهيم حمزة



فى ليلة شديدة البرودة ، تحولت برودتها لدفء وحميمية حقيقية ، بفضل قيمة ادبية كبيرة اسمها محمد عبد الله الهادى
الذى قاد مناقشة عمل أدبى جميل للأديب الزميل بالمنتدى " العربى عبد الوهاب " هو رواية " إنهم يموتون فى الربيع "


تأخر بدء المناقشة للترحيب بالضيوف وتقديم واجب الضيافة ، لا تنس اننا فى الشرقية ، حتى
بدأت بعد السابعة بقليل ، اتحاد الكتاب فرع الزقازيق ، يحتل شقة جميلة بشارع مسجد الرحمن بحى القومية بالزقازيق ، قدم الندوة الروائى الكبير محمد عبد الله الهادى ، بكلمة قصيرة بليغة تعرفنا فيها على العربى عبد الوهاب وروايته ، وكانت قد نشرت مسلسلة بجريدة الجمهورية عام 2001م ثم تحدث " الهادى " على تخلى جريدة الجمهورية عن دورها الثقافى والتنويرى ، الذى تراجعت عنه بامتياز ، وصار باب نادى أدباء الأقاليم يظهر كل عدة أسابيع على استحياء ، وربما شاركت صحف أخرى فى تهميش الأدب أيضا . ثم قرأ الكاتب سطورا من الرواية ،
ثم بدأ إبراهيم حمزة فى تقديم رؤيته للرواية فأشار إلى أنها رواية ممتعة وهذه المتعة صار البعض من الكتاب يترددون ألف مرة ، قبل السماح للقارىء فى تذوقها والاستقواء بها على مرارات الحياة ، وكأنها لعنة يوسف شاهين قد أصابت الأدباء ، الرواية هنا مما وصفه "رولان بارت" بوصف مزعج " روايات القراءة " قاصدا الروايات السهلة فى التلقى ، أو واضحة الهدف ، وكأن الكاتب يعيبه أن يكون واضحا فى طرحه ، رغم أن كتابا كبار يمكن وصف رواياتهم الجميلة بكل اطمئنان بأنها " رواية قراءة " ، لكن الأدباء يهابون هذه التهمة ، وكذلك النقاد مازالوا يخشون ولوج كتابات إحسان واسماعيل ولى الدين وفاروق جويدة وغيرهم .
رغم أن الوضوح حق أصيل للقارىء ، لكنى أعود فأنفى التهمة عن راوينا وروايته ، فوضوحه هو وضوح الشمس التى لا ندرك ونحن ننظر لها بملايين التفاعلات التى تنفجر فى قلبها المتخم باللهيب ، لقد عبرت الرواية بحميمية عن عالم المهمشين ، وهذا التعبير المكرر ، فى الشكل ليس مكررا عند التامل فيه ، فالعربى عبد الوهاب يكتب من داخل الأطار ، بل يشتعل بآلام من يكتب عنهم ، لأنه – ببساطة منهم ، هى كتابة العارف إذن ، ليست مدعاة كما الكثير من البكاء على أطلال المهمشين من خلال منظار وجودى لا علاقة له بالجوع أو المعاناة .
ثم سعى لتحليل تأثير المكان على الشخوص والأحداث وعلاقة المكان بالجنس ، واللغة ( الدراسة بكاملها موجودة بالمنتدى على هذا الرابط
http://www.arabicstory.net/forum/index.php?showtopic=13755

ثم قدم الأستاذ محمد عبد الله الهادى الناقد الثانى الدكتور شريف الجيار ،

وللدكتور شريف أعمال هامة منها

شعر إبراهيم ناجي ، دراسة أسلوبية :
طبعة أولى : دار الثقافة المصرية، القاهرة 2004م
طبعة ثانية : الهيئة المصرية العامة للكتاب (تحت الطبع)
ـ التداخل الثقافي في سرديات إحسان عبد القدوس، مدخل نقدي مقارن : الهيئة العامة لقصور الثقافة ، سلسلة كتابات نقدية، القاهرة 2005م
ـ الراوي في رواية الواقعية السحرية في مصر، رواية "ظلال حائرة" لـ"عبد المنعم شلبي" نموذجًا: بحث مقدم للمؤتمر العلمي الثالث لقسم اللغة العربية (رواية ما بعد الحداثة)، كلية آداب بني سويف، 8-9 أبريل 2006م
ـ الرؤية السردية في أدب نجيب محفوظ الروائي، رواية اللص والكلاب نموذجًا : بحث مقدم لمؤتمر اتحاد كتاب مصر، وكان عنوانه نجيب محفوظ والرواية العربية، المؤتمر العام للأدباء والكتاب العرب، 21-23 نوفمبر 2006م
ـ أدب إحسان عبد القدوس بين القبول والرفض : بحث مقدم لندوة المجلس الأعلى للثقافة عن إحسان عبد القدوس، القاهرة 10-11 يناير 2007م

تحدث الدكتور شريف عن أهمية الحذف لدى الكاتب الجاد الذى يتخلص من النتوءات الكلامية ، مخلصا الرواية من أثقال لا تتحملها ، ثم تحدث عن قيمة المفارقة الدالة فى العمل ، مؤكدا أن رواية العربى عبد الوهاب من روايات البوح من الطراز الأول ، وتحدث عن كوبرى مسطرد كرمز للتوقف بين القرية المدينة ، وأيضا الضياع ةخشية السقوط التى يمثلها الكوبرى ، ثم أشار للجنس باعتباره رغبة ريفية صادقة للتكاثر والشعور بالذات ، وأكد أن الترمس الذى يبيعه أحد الشخصيات هو رمز لفقدان الهوية عند الإنسان المصرى
وأشاد بلغة الرواية وميله لرواية الأصوات واختتم القراءة بأنه يرى العمل " مسرواية " بما يحمله من خصائص صوتية متعددة تمكنه من التقلب بين فنى المسرح والرواية .
- ثراء المناقشات :
كانت مناقشات الصالة شديدة الثراء ، حيث اعترض حاتم عبد الهادى – كعادته – على تخلف النقد عن الإبداع ، متسائلا : ما الجديد الذى قدمه النقد لهذا العمل الروائى ؟ ثم تحدث الكاتب عطية الشوباشى حديثا مسهبا ممتعا ، بين فيه رؤيته للرواية . وتساءل الدكتور صلاح عن إمكانية انتشار هذا اللون من الروايات (رواية الأصوات المتعددة ) ثم تحدث المبدع الأستاذ الدكتور محمود عبد الحفيظ عن أهمية الرواية ، وجديدها ، وأشار الأستاذ الدكتور محمد عبد الحليم غنيم لتحفظاته على الرؤى النقدية المطروحة ، واتفاقاته معها ، وتحدث العم مأمون كامل عن اتساق رؤية العربى عبد الوهاب مع فكره وحياته ومجتمعه أيضا .. كذلك أوضح القاص إبراهيم عطية – وهو ناشر الرواية – أنه يعتبر الرواية رغم أنها تسبق رواية خليج الطبالة إلا أنها تتسق مع مرحلتها ، ثم تمنى الأستاذ عبد الحكيم محمود وجود مدونة او مضبطة لما يدور من مناقشات نقدية ثرية ، وبعد الردود من الناقدين ، انتهت الندوة .

على الهامش :
-أهدانى الروائى الكبير محمد عبد الله الهادى روايته الكبيرة حجما وقيمة "ليالى الرقص فى الجزيرة " .

- لم يستطع إبراهيم عطية – المبدع الجميل – التخلص من طبيعته الشرقاوية ، فاهتم بتقديم أمور الضيافة بنفسه ، بحفاوة طبيعية فى شخصية إبراهيم عطية .
- حال البرد الشديد دون توافد الكثيرين ، فاحتفظت الجلسة بخصوصية جميلة .
- حذرنى الصديق إبراهيم حامد من عنف النقد للرواية ، مؤكدا أنه على قدر ما تشيد بالرواية ، تجد " الواجب " مقدما لك .. حقيقة إبراهيم حامد بسمة غاية فى الصفاء والطيبة .
- المبدع الشاعر والمترجم حسن حجازى أكرمنى بإهدائه لى بعض إبداعاته .


- حضرت بعض طالبات الأستاذ الدكتور محمود عبد الحفيظ .
- حرص المبدع محمد عبد الله الهادى على الاطمئنان تليفونيا على المواصلات والوصول ، ولولا تقارب فارق السن لقلت أنى شعرت بأبوة حانية جدا من هذا الرجل الجميل .
- إلى لقاء قريب .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن منتدى القصة العربية
لقراءة الموضوع كاملا وتعليقاته
على هذا الرابط
http://www.arabicstory.net/forum/index.php?showtopic=13756&pid=94196&mode=threaded&show=&st=&#entry94196

أسى الزمان وسلطة المكان, قراءة فى رواية " إنهم يموتون فى الربيع "




أسى الزمان وسلطة المكان, قراءة فى رواية " إنهم يموتون فى الربيع " للكاتب العربى عبدالوهاب
دراسة نقدية
للأستاذ ابراهيم حمزة


والله ما فرقت بين نعمة وبلوى ساعة "
الحلاج
"أحمل رأسا قد سئمت حمله
وقد مللت دهنه وغسله
ألا فتى يحمل عنى ثقله "
قطرى بن الفجاءة .

الحياة دين ثقيل ، رحم الله من سدّده ""
محفوظ


غلاف من الضياع يغلف العالم الروائى لـ" إنهم يموتون فى الربيع " الضياع العام والرغبة فى انتهاء هذا الدين الثقيل المسمى بالحياة، وهكذا فكل عمل روائى يحمل فى ذاته خصوصية تجعل منه أحيانا عملا خارجا عن التصنيف ، عمل له تميزه المقبول أو المرفوض ، ومن هنا يتوقف المرء طويلا مع تعبير بديع كصاحبه للدكتور مرتاض يقول " تتخذ الرواية لنفسها ألف وجه ، وترتدى فى هيئتها ألف رداء ، وتتشكل أمام القارىء تحت ألف شكل " صـ11
لكن الصاحب الذى لن يتركك أبدا أثناء مطالعةالرواية هو المتعة ، وهذه المتعة صار البعض من الكتاب يترددون ألف مرة ، قبل السماح للقارىء فى تذوقها والاستقواء بها على مرارات الحياة ، وكأنها لعنة يوسف شاهين قد أصابت الأدباء ، الرواية هنا مما وصفه "رولان بارت" بوصف مزعج " روايات القراءة " قاصدا الروايات السهلة فى التلقى ، أو واضحة الهدف ، وكأن الكاتب يعيبه أن يكون واضحا فى طرحه ، رغم أن كتابا كبار يمكن وصف رواياتهم الجميلة بكل اطمئنان بأنها " رواية قراءة " ، لكن الأدباء يهابون هذه التهمة ، وكذلك النقاد مازالوا يخشون ولوج كتابات إحسان واسماعيل ولى الدين وفاروق جويدة وغيرهم .

رغم أن الوضوح حق أصيل للقارىء ، لكنى أعود فأنفى التهمة عن راوينا وروايته ، فوضوحه هو وضوح الشمس التى لا ندرك ونحن ننظر لها بملايين التفاعلات التى تنفجر فى قلبها المتخم باللهيب ، لقد عبرت الرواية بحميمية عن عالم المهمشين ، وهذا التعبير المكرر ، فى الشكل ليس مكررا عند التامل فيه ، فالعربى عبد الوهاب يكتب من داخل الأطار ، بل يشتعل بآلام من يكتب عنهم ، لأنه – ببساطة منهم ، هى كتابة العارف إذن ، ليست مدعاة كما الكثير من البكاء على أطلال المهمشين من خلال منظار وجودى لا علاقة له بالجوع أو المعاناة .
نحن أمام عائلة مصرية تشكل نموذجا قابلا للتكرار فى كل لحظة ، الأب " مرزوق " وأبناؤه ( عرفة /الطاهر / بهية / محمد / إبراهيم / مصطفى / عزيزة ) أنجبهما من زوجتين " فتحية ، والمقابل لها زنوبة ، وعبر الأصوات الساردة نلتقى باللحظة الطازجة فى حكاية الطاهر صديق اليتم الدائم ، بعد مشوار الزواج والكفاح ترسو به سفن آلامه على ميناء القهر ، فيبيع الترمس فى حوارى القاهرة الفقيرة ، بعدما حصل على أجازة مرضية من عمله البسيط كحاس أمن بجامعة الأزهر ، يبدأ التهميش هنا مبكرا مباشرا ، من " كشكه الخشبى الذى يقبع فيه يراقب اللاشىء " ثم محاولة العودة من بيع الترمس ، عبر عربة نصر بصندوق خشبى – لاحظ الدلالات السيميولوجية للصندوق الخشبى ، ثم الحوائط التى تكتم الأنفاس ، ثم يتسع الحدث ليشمل ذكرى الأب الذى اختار التبدل والتبذل فى حضن امرأة نصف ساقطة ، فى مقابل ابنته " بهية " الطهورة وزوجها الشيخ عبد التواب ، لقد ربّت بهية أخاها ، بعد أن ولدت ابنها فتحى ، الذى خرج عن إطار بيئته بشكل عجيب ، وصار متعلما ، ثم مُعلما ، يعشق الأدب والشعر ، ولهذا كان فتحى وخاله الطاهر أصدقاء ، ثم تأتى زنوبة ، زوجة الأب المعذبة دوما برغبتها ، المسروقة السارقة لأجل مشتهياتها الرخيصة " العسلية ، والطعمية الساخنة ، وكأنها تستورد سخونتها من سخونة الطعمية وحلاوة العسلية ، هى تحت زوج أمضه الزمن وأهلكه ، فراح يقبل بالعمل حارسا لمسجد بالزقازيق ، تاركا الأرض والدار لابنه الأكبر ومساعده " عرفة " .. عرفة هذا مفرغ تماما من العمق ، حانق على الكون ، يشعر أن كثيرين ممن خلق الله يحتاجون للعصا ، عرفة هذا الذى ظل على شبقه بزوجة أبيه ، لا يرى فى الدراسة بالزقازيق سوى رؤية أحلى بنات فى الشوارع والأتوبيسات والكلية ، وسوداوية الحياة هذه هى التى تلقى به فى حضن الجماعات الدينية ، ليس الصفاء إذن هو طريقهم وإنما كراهية الحياة والحنق عليها والضيق بها ، ولذلك تفضح زنوبة ممارساته معها ، لكن الأب لم يزد عن قذفه بطبق ماء البطاطس ، إنه المقابل المر لأخيه طاهر ، وبين انتقال الأب إلى الزقازيق ، وانتقال "على " زوج زنوبة الأول من الجبهة للبيت وانتقال عرفة إلى مصر للعمل فى مسبك ، وانتقال زنوبة من قريتها إلى طحلة ، وانتقال بهية إلى السعودية فى انتظار تأدية الشعائر ، وانتقال الطاهر إلى مصر وشوارعها ، كل انتقال يعقبه انتكاس ، انتكاسة وعودة مؤلمة ، يعود الأب إلى طحلة بمرتبتين ولحاف و"حلل قديمة نحاسية قد علاها الصدأ والهباب الأسود " هذا الهباب علا القلوب قبل الأوعية وعشش بداخلها ، ومن معالم هذا الانتكاس تبرز شخصية " على " الزوج الأول لزنوبة ، والذى كان صف ضابط بالجيش ، عاد من الجبهة بشبشب بلاستيك مقطوع ، وبنفسية أيضا مقطوعة ممزقة ، وقد خسر حاضره " رجولته " وآمله فى مستقبله " وفاة ابنه " وفى النهاية خسر ذاته بموته ، هذه هى الحرب كما قدمتها الرواية ، باعتبارها وسيلة قهر أخرى ، ووسيلة ضياع مكثف ، ثم نرى انهيار الزوج " مرزوق " درت بنظرة كسيفة إلى شباك الأوضة المظلمة " ثم سقوط المرأة أمام فحولة " عرفة " وغيره ، بينما يتقلب طاهر على نار الأنابيب التى رضى بها وما رضيت به ، ثم نجد فتحى الذى قد يشكل أملا ما فى مجتمع جاهل هكذا ، تنتهى حياته سريعا ، وعرفة الذى " يكح طوال الليل ولا تفيد الأدوية ، الجميع أسرى خطوات قدرهم المكتوب ، تغيرت البلاد ومن عليها – مع التقدير لفتحى فرغلى – وصار الجميع أسرى لقهر عام ، ظهرت الموتوسيكلات والحشيش والماكياج ، نسوا الحمير أولاد الحمير ، فهل ترك لنا كاتبنا املا نعيش به ؟
- المكان المعادى .. وخصوصيته :
يلعب المكان فى الرواية – فى تصورى - دور البطولة ، لقد وجد أبناء الريف أنفسهم مجرد أنقاض لمجتمع تليد ، أنقاض مهيأة لأن تدخل فى جسد اجتماعى قاهر لهم – كما يذكر مالك بن نبى ، ولهذا يأتى المكان ساكنا لهم مسكونا بهم ، والكاتب نفسه غارق فى تفاصيل المكان ، عارف به ، شاعر بملامحه النفسية .
التغيير الحادث فى المكان فىالرواية تغيير بطىء ، لكنه مخيف ، الرواية تقول إننا ضحايا دائما لقهر الزمان والمكان معا. " طحلة - الوطن الروائى - ومسطرد " أسماء أماكن بدأ بها السطر الأول للرواية ، ثم " ما بين الزقازيق وظلام الليل فى الشوار ع الضيقة كنت اتخبط " صـ7 الربط بين المدينة والظلام والتخبط هنا عكسى ، فالأصل فى المدينة الاتساع والنور ، لكن الكاتب يعكس آثار المكان على نفسه ، حيث سنجد الأخت "بهية " أيضا حبيسة قهر المكان " تختبئون فى شقوق السعودية ، حتى يحضر الحجاج من كل بلد " صـ7
بينما يقع " الطاهر " تحت قهر المدينة ، ويصل القهر والعنت مداه فى القاهرة " صارت القاهرة أفعى تلتهمنى كل يوم ، أموت بين شوارعها "
لم يعط المكان مطلقا أبطاله شيئا من المتعة ، مضت الرواية وعرضا ، لم نستمع فيها لصوت راديو أو رؤية تلفاز ، باستثناء لحن سلامات على لسان سائق ، والأغنية ذاتها تتغنى بالغربة ، لا يمنح المكان ساكنيه طمانينة ما ، ربما باستثناء الوطن الروائى " طحلة " التى يشعر " الطاهر "بالدفء حين يدخلها ، خاصة فى التذكار ، " وهم يلجأون متجمعين عند الأمة " فى لعبة المساكة أو الاستغماية .
هنا نتذكر ملاحظة عميقة للأديب "غالب هلسا " فى مقدمته لكتاب "شعرية المكان لباشلار " إن المكان يتصل بجوهر العمل الأدبى ، فالبيت القديم يمثل مكانا للألفة والذكرى " أما المدينة هنا فتمثل صورا متعددة للقهر الذى يصطبغ به أبطال الرواية جميعا بلا استثناء .
دفء المكان كان يبرز فى الذكريات فقط ، ذكريات الطاهر فىطفولته " أحب الجرن ولعب الاستغماية " صـ11
ذكريات مرزوق مع زوجته الأولى" فتحية " التى كانت " تفرفط حبات الذرة للدجاج ، يرفرف بأجنحته مخلفا بهجة حلوة ، فتضحك سناء " صـ43
كما نجد المكان يفرد ظلالا دلالية كبيرة على المعنى ، بل يتحول المكان ببعض مفرداته إلى علاقة سيميولوجية ذكية محملة بطاقة ساخرة ومستفزة ودافعة لتغيير هذا الأسى ، يقول " هنا بين الشحاذين والجائعين أنام ، ورائى أحمد عرابى على جواده ، رافعا سيفه ، وكل اللصوص تتصيد الخارجين من المحطة أمام عرابى وأمام الله " صـ9
هذه المفارقة الدالة المتكئة على طبيعة المكان "محطة القطار " بدوالها الكامنة لدينا تؤكد بتعبير روائى شديد اللماحية انهيار البرجوازية وأحلامها التى مثلها عرابى يوما ، ويؤكد طابع القهر الذى يطبع المكان الروائى – أى المكان داخل الرواية كما يشير الدكتور سمر روحى الفيصل - ، كما يطبع الفضاء الروائى أى أمكنة الرواية جميعا أو أنه الحيز الزمكانى الذى تتمظهرفيه الشخصيات والأشياء ملتبسة بالأحداث تبعا لعدة عوامل تتصل بالرؤية الفلسفية وبنوعية الجنس الأدبى وبحساسية الكاتب – بتعبير الأستاذ منيب محمد البوريمي، فى "الفضاء الروائي في (الغربة)، الإطار والدلالة."
ولكن خلال تأمل بعض الدراسات وجدت تقسيما للمكان للروائى غالب هلسا إلى :
- مكان مجازى - مكان هندسى
- مكان معادى عرفه بأنه مثل مكان الغربة أو المنفى ويتخذ هذا المكان صفة المجتمع الأبوى ، بهرمية السلطة داخله ، وعنفه الموجه لكل من يخالف التعليمات ، وتعسفه الذى يبدو قدريا "
والحق أنه توصيف مناسب جدا للمكان الروائى فى هذا العمل ، المكان المعادى لكل ساكنيه ، المتعسف معهم جميعا ، إلى درجة المأساوية ، حين تتوحد كافة الأمور لمحاولة حصار الإنسان وقهره .
الفرن الذى يعمل به عرفة "لا يعرف سوى الانصهار التحول " الأتوبيس ورحلاته ومتاعبه وعدم جدواه " انزل أول شارع الكابلات واتمشى شوية " الشقة الجحر بالمساكن الشعبية " شقة العم عبد الستار ، ودعوته للمقابل " أرض الله الواسعة" .
حجرة الأب " أودة مظلمة ، شقة بهية " وجدتنى أتطلع للبقع المنهارة من محارة الحائط " ، سكن عرفة " صالة تفتح على أودة مظلمة ، وحمام ضيق على اليمين ، وراءه مطبخ ضيق " ولذلك يعلق عرفة " لم أدر أنى سأدفن هنا زمنا " صـ 64
إن الأمكنة جميعا تتحد وتتعاون فى دأب عجيب لخنق الإنسان وسلبه أحلامه ، ما بين ظلام الداخل وضيقه ، وجنون وقذارة وضياع الخارج " أعجبتنى مصر وضياع الناس فيها " على لسان عرفة أو الزقازيق التى تستقبل الطاهر باحثا عن مأوى .. تجسيد تال للضياع ، "يذهبون جميعا إلى الزقازيق الجحيم " .
فهل هناك أبلغ من تعبير المكان المعادى ؟!!
المكان / الجنس وجرح التشهى :

الجنس فى الرواية دائما مأساة ، ودائما خارج إطاره الشرعى ، دائما هناك " عوز واحتياج للجنس ، لكتم جرح التشهى النازف دائما لدى مرزوق – عرفة – زنوبة – فتحى – الطاهر " والجرح هنا ليس مصدره الجوع الجنسى ، إنما يصبح السر – بتعبير عرفة – فى الرغبة التى لا تتحقق.
، انشغلت الرواية بما يزيد عن عشرة مواقف جنسية ، جميعها خارج إطاره الشرعى والمكانى ، بالطبع لا نناقش سوى دلالة هذا أدبيا ، نجد مرزوق الذى سلّم على الزعيم عبد الناصر ، وقال له تسلم إيدك لمصر ، يلتقى للمرة الأولى مع زنوبة " التى رآها تصعد السلم ، فصعد خلفها ودفع باب المقعد ، وافترش على عجل هدوم العيال على الأرض ، وانتهى الأمر ، ليجد أنه قد سقط من فوق تلالها ، إلى حفرة عمره " صــ32، المكان الروائى عامل طارد للجنس ، والجنس ذاته كتم لجرح التشهى ، فهو قتل شهوة وليس استمتاعا بها ، ثم عرفة الذى سنجده دائما توّاقا إلى البعيد المحرم ، عازفا أو تاركا للمتاح المعروض " الزوجة " وقفت نوال – زوجته – عارية وسط الدار ، تذكرت زنوبة " صـ51كذلك سنجد الطاهر الذى رأيناه على طرف سقالة فى مقابلة فتاة عاملة ، لكنه يمد يده ليمسك صدرها ، وتصرخ ، ويشتم ويطرد ، الجنس هنا عذاب بلا طائل ، والمكان الجنسى هنا جنونى ، وحين يتاح له الطائل والمناسب والشرعى نراه قد " تبددت كل رغبة فيه " صـ129، ونلاحظ فى مقام آخر سعادته بالبعد عن الزوجة لأنه سينام بدون رفص امرأته " صـ52
وبعد قليل سنجد الهذيان والشكوك تقاتل مرزوقا ، وهو يتصور زوجته زنوبة تخرج لعشاقها الذين هم " كلهم بغال ، يدورون على الخرابات ، بغية العثور على كلبة قحبة ، تسحبهم وراءها ، يتعلق بفرجها من ترغبه حتى آخر الليل " صـ56
هذا هو المكان الجنسى ، الخرابات ، وهذى طمانينة الجنس وشكله مع " كلبة قحبة "
ثم عرفة الذى واقع امرأة أبيه "زنوبة " بدون أى شعور بالخطيئة ينغص عليه حياته ، وحينما تكون زوجته بين يديه ، تعود زنوبة من الزقازيق ، فيود التملى من مشية زنوبة ؛ حتى تفيق أعضاؤه " صـ60
أما انكسار الجنس فهو بلا شك وليد انكسار الروح ، نتيجة هزائم بلا حصر ، لكن انهزام الوطن يكون قاتلا بالنسبة لـ" على " الزوج الأول لـ " زنوبة " ، الذى يدمن حالة العجز حتى أن الزوجة تشكو منه " ما أبشع ارتخاؤك " بعدما "بقى دائرا وهى ناظرة لارتخاء عضوه " صـ73
وتتكرر وقائع سقوطها مع الولد الشحط ابن صاحب المسجد الذى يعمل فيه زوجها ، ثم مع فتحى الطفل ، الذى كان " فراشة تحوم حول تلالها ولا تصل " صـ141
ثم واقعة فتحى والعجوز الشاذ ,,,,
هذه الصورة من الجنس العاجز ، يطبعها طابع عام ، أن الجنس هنا ليس مصدرا للمتعة ، بقدر ما هو ترسيخ للانهيار ، والمحاصرة والعجزوالشعور بالقهر ، حيث تسعى الرواية لتصوير اللحظات الميكانيكية للجنس ، للتوقف عند دلالاته المتولدة من رحم القهر ، والشعور بالضياع .
المكان الجنسى – كما رأينا – دائما غير مناسب دائما غير مجهز ، والجنس هنا – والتعبير للدكتور غالى شكرى – ليس مجرد تعبير عن علاقة بين الرجل والمرأة ، إنما تجسيد لمعانى هامة فى حياتنا ، وفى مقدمتها الشعور بالحرية . هو سعى لرغبات لا تتحق ، وآمال لم تزل ظمأى ، الجنس هنا تجسيد للعجز فى إقامة حياة طبيعية بمتع طبيعية ، بل تتوالى الكوارث دائما نتيجة عمل جنسى فاشل ، فيطرد الطاهر من عمله ، وتحترق القرية بنار الانتقام بعد محاولة اغتصاب البنت نفيسة فى الحقل – لاحظ عدم مناسبة المكان ، حتى العهر عند " زنوبة " عهر بلا مطالب ، ليس " بورنو " [ بحثت الدكتورة فريال جبورى فى لفظ بورنو ، ورأت أنه منتزع من مصطلح أجنبى هو بورنوغرافى ، مشكل من جزئين هما كتابة والبغى ، وهو لا يقتصر على ما هو جنسى بل تتاجر بالجنس وتجعل منه سلعة] .
ومن العجائب أن نجدالكاتبة الفريدة يلينيك النمساوية الفائزة بجائزة نوبل تقول "نعم، كنتُ أريد أن اكتب بورنوغرافيا، ثم اكتشفتُ أن تلك مهمة مستحيلة بالنسبة لي. وأعني تحديدا، بالنسبة لي كامرأة. الرجل هو من يصنع البورنوغرافيا، أما المرأة فهي على الأكثر الهدف الصامت للنظرة الذكورية.
ولكن الرواية لم تسقط فى شرك الجنس الفاضح ، بل تتماس مع أخطر ألوان الجنس – جنس المحارم – لكن براعة نادرة جعلت الكاتب يقنعنا بعادية وقوعه ، بل يجعله أمر طبيعيا إن لم يكن حتميا .
لغة الرواية وشخوصها :

لا أظن أن رواية الأصوات نادرة فى أدبنا العربى ، بل شاعت بشكل يجعل الباحث يتوقف أمام جدوى استخدام هذا الشكل دون غيره فى عمل كهذا ، أو بكلمات أخرى : ما الحتمية الفنية التى فرضت استخدام هذه التقنية الإبداعية ؟ وما الضر لو استخدم الكاتب الضمير الغائب مثلا ؟ هذه إحدى الإضاءات التى تنيرها الرواية ، ولكن فى ظنى ان تعدد الأصوات ليس هو ما يمنح الرواية جواز سفرها فى عالم التميز الحقيقى ، بقدر ما أراه فيها من خصوصية التجربة ، وصدق التعبير ومغامرة اللغة ، وصدق المعايشة ، ولطف الانتقالات الزمنية .
كذلك ما قيمة المداخل التى وضعها الكاتب ؟ ولماذا خص بها بابه المعنون بـ الزئبق " ؟
وهل الرواية قاصرة عن منح القارىء هذه الإشارات التى قدم بها الفصل ؟ كذلك ما جدوى التقسيم ( دق المسامير / الزئبق / فاتحة / صعود الزئبق / هبوط الزئبق / هامش جانبى ) وما قيمة المخالفات العددية فى صفحات الرواية فمنح كاتبنا الكاهر خمسين صفحة أى اكثر من ثلث الرواية ، ونال فتحى خمسا وثلاثين ، بينما ربحت زنوبة عشرين صفحة ....
الحقيقة أن الرواية ليست عملا هندسيا ، إنما عمل إبداعى يتسع لجنون الكاتب ومزاجه ، ورؤيته ، ومناسبة الشكل مع ثقافته وفكره ، كما أن امتلاء الكاتب ثقافيا يدفع بهذا البحر الهادر إلى ما يشبه الاندفاع فى شكل مداخل ، او تضمين – كما فى شعر أمل دنقل أو العم مأمون كامل ، كما أن الكاتب القادر هو من يتفهم شخصية القارىء وحاجاته ، فالشكل القصير الذى جاء مع تعدد الأصوات يمنح تجربة الكاتب مرونة واتساعا وفيضا دلاليا ، كما يمنح القارىء يسرا ومتعة ، فرواية الأصوات تدور حول طرائق الكشف عن الشخصيات داخل الحياة نفسها ، من خلال الطبيعة الحوارية ، التى ترتفع فوق تقليدية البناء الروائى كما يشير د.نجيب التلاوى .
لكن فوضى العدد والترتيب فى تقديم الشخوص هو تأكيد لفوضى الحياة ذاتها ، وفوضى حياة الأشخاص داخل هذا الإطار ، فرغم هذا العجز التام ، فالكل يتزوج ، والكل ينجب ، وتستمر الحياة بهذه الكيفية المتوترة الهمجية ، والشخصيات التى قدمها الكاتب شخصيات حقيقية لا افتراضية ، دعنا من رولان بارت الذى يرى الشخصيات " كائنات من ورق " وبأنها نتاج عمل تأليفى تركيبى يقوم به القارىء أكثر مما يقوم به النص ، هذه أفكار بعضها مقبول ، لكن شخوص الرواية أجساد متحركة ، لا نجد شخصية مثالية أو قذرة دائمة ، هى شخصيات عادية تحمل الفجور والتقوى ، وهو ما صنع منها أفرادا من لحم ودم ووجود يمنحنا القدرة على إكمال رتوشها من معايشتنا لواقعنا .
ومن تعدد الأصوات ، نجح الكاتب بشكل كبير ، فيما سقطت فيه – عادة هذه النوعية من الروايات – أعنى المستوى اللغوى الثابت مع عدم مراعاة التخالف الثقافى والاجتماعى ، ففضلا عما تحمله الرواية من إشارات تقول أن الرواية كلها كتبها فتحى ، ثم وضعها على الكوميدينو بلا ترتيب ، لنجد مبررا فنيا لمسألة المخالفة العددية ، فإن الرواية تحمل فى سردها – هذا فضلا عن الحوار بالطبع – تحمل تمايزا لغويا بيّنا ، خاصة بين " فتحى " وبقية أبطال الرواية ، فاللغة لدى فتحى مثقلة بإشارات وجماليات ودلالات ، مالكة لكل ألوان التشكيل الجمالى ، بينما تظل اللغة عند الآخرين متكئة على الحيادية باعتبارها أداة توصيل فى المقام الأول ...
وشاعرية اللغة هنا لا تأتى من استخدام المستوى الأرقى تصويريا ، إنما من القدرة على السمو اللغوى فى التعبير عن وقاحة الواقع وتشظيه ورداءته .
والأمثلة أكثر من أن تحصى على طول الرواية .
وهكذا فقد قدم العربى عبد الوهاب عملا ممتعا قادرا على الأخذ بيد القارىء ، حالا مشكلة مآسى التلقى ، كما قدم مستوى لغويا – حقيقة – مذهلا فى حواره ، بكل بلاغة وإيجاز العامية الشعبية الثرية ، كما امتلك فى لغته جسارة مفاجئة ، مع وضوح تام فى الرؤية ، جعل المنتظر من العربى عبد الوهاب كثيرا كثيرا .

إنهم يموتون في الربيع .. رواية جديدة صدرت.. للعربي عبد الوهاب

كتب الأديب والصديق / محمد عبدالله الهادى
فى يوم 13/2/2009


عن كتاب الأجيال صدرت رواية ( إنهم يموتون في الربيع) للقاص العربي عبد الوهاب عضو المنتدى
يأتي هذا العمل للعربي بعد عدة أعمال صدرت من قبل منها:
عزاف النار ـ قصص
أربع نخلات ـ قصص
خليج الطبالة ـ رواية
إنهم يموتون في الربيع هي الرواية الفائزة في المسابقة المركزية لهيئة قصور الثقافة عام 2000 ونشرت مسلسلة في صحيفة الجمهورية
سبق أن قمت بمناقشة هذه الرواية في نادي أدب الزقازيق
هذا وستتم مناقشتها السبت الأخير من هذا الشهر في فرع اتحاد الكتاب بالشرقية
رابط الغلاف وآمل أن يظهر
http://www.3rebo.com/my_work/araby.jpg




وهذا جزء من الرواية:
إنهم يموتون في الربيع
ـــــــــــــــــ
دق المسامير







الطاهر مرزوق
مابين طحلة ومسطرد تتخبط الآن قدمى .
ما بين الزقازيق ، وظلام الليل فى الشوارع الضيقة واصلا إلى الحجرة التى أسكننى إياها العم شوقى كنت أتخبط .
تعبت ـ يا طاهر ـ وأخيرا تحت صحن من الترمس تنادى .
يستوقفك شلن .. بريزة .. يستزيدون .. تزيدهم .. حبات .. ملاليم .
صارت القاهرة أفعى تلتهمنى كل يوم . أموت بين شوارعها ، وعماراتها العالية .. أتعثر فى الحفر والبالوعات والشوارع المتربة . على رأسى صحن الترمس وقراطيس ورقية . وأمامى شمس تصفر وتذبل فى طريقها للغروب .
راحت أيام عربات أنابيب الغاز ، مكسب عشرون جنيها فى اليوم .
كنت أتكرع كالتيس بعد أكل الكفتة والكباب .. أيام ليست بعيدة .. باعدت الوظيفة بينى وبين التكرع اللذيذ .. قبّلنى حمادة فى المدرسة . وقبلت الصغيرة شيماء .. أيام المرضى أوشكت على الانتهاء .. أخرج من حبسى . كيف حالــك ـ الآن ـ فى الحبس يا بهية ..؟ تختبئون فى شقوق السعودية حتى يحضر الحجاج من كل بلد ، كالنمل يزحفون . فينطلق سراحهم . يختلط الحجيج .. يتساوى القادم على ظهر سفينة بالمسافر كالبرق .
الساعة العاشرة صباحا ، والشمس مازالت تتبختر بين سحب رمادية ، ولا عربة تلين فتأخذنى
… لو تشعرين بألمى يا نجلاء رغم نومك بجوارى على سرير واحد . تقلقين بحضورك نومى ، وسكوتى ووهنى .. النقر القديم يعاود الدق … مسامير تخبط فى رأسى ، تكسر العظام .
يركبنى النوم . وعدم الرغبة فى رؤية الناس ، والطعام ، والحياة ، ماذا أفعل إذا كاد الشرود يقتلنى تحت عجلات عربة نقل منذ أسبوع ؟!
زحف العجلات أفاقنى . طار الطبق من فوقى . تبعثرت . ملعون الترمس والطواف بين العزب ومسطرد والمسلة . أحياء الغلابة متهالكة .
من يشترى يا ناس ؟
ترمس .. تسالى
تسالى .. يا ترمس
كيف اختصرت قوتى تحت صحن الترمس ؟ بين حارات وشوارع وبلكونات تشبه عجوزا . تقوس حتى لا مس الأرض . من المسؤول ..؟؟
حمادة .. شيماء .. أم حمادة .. أبى .. عرفة .. زنوبة .
أم العمل صباحا فى جامعة الأزهر . أحمل شكائر الأسمنت ، الطوب ، الرمل ، نبنى كشكا يصلح لخروف سيقتله الانتظار عند البوابة الفرعية بجامعة الأزهر حيث البرد ومراقبة اللاشئ .
مأمورية .
الأسبوع قبل الماضى أخذت ثلاث مأموريات على حساب كشك الأمن .
عربة نقل نصر بصندوق خشب .
" استنى يا أسطى "
بكل سرعة استندت على عجلة العربة . تعلقت بالأيدى الممدودة .
انطلق السائق . فور ارتفاع قدمه اختل توازنى فارتميت عليهم .
… ترانى وضعت القفل فى العجلة . الولد حمادة يتحنجل عليها . ربما يسحبها للعيال فى الشارع تركبها .. أو تكسرها .
ملعون النسيان .
ما كان يجب أن أسافر .
كادت الحوائط أن تكتم أنفاسى .
أذهب لدار أختى .. لا .. الزقازيق مازالت بعيدة . فلأنزل المشروع . أذهب إلى طحلة أولا . أود أن أنام وحدى .
ارتجت العربة ، وتلاعبت بالطريق .. واضح أن السائق يتمايل مع غنوة سلامات .
بهية ، إبراهيم ، عزيزة ، عرفة ، محمد ، مصطفى ، وأنا
غير من ماتوا من أمى ومن زنوبة .
كثيرون يا أبى وبرد الشتاء لا يرحم .
الصديرى خفيف .
وعربة مكشوفة تشكو لرب السماء ضعفها وانقيادها الفج لسائق غير مهتم .
ليست لى علاقة بك يا بلبيس . لا أحبك . ولا أعرف السر . ربما الرشاح .. رائحته النتنة .. المياه الطافحة تذكرنى بالشوارع المؤدية إلى أوضتى فى عزبة الحريرى ، حيث بيت العم شوقى الحاتى . ظلمة ونباح كلاب وخبط فوق رأسى .
لو جابت ولد .
امرأة إبراهيم أخى ، يكون فأرا صغيرا كأبيه . يستحق لطمتى له فى المرة السابقة ..
يسب الدين .. ؟!!!
تقول بهية " الخير راح من وشها " أنا شفت أواخر أيام الخير هذه .
كان الذرة يملأ سطح الدار . زنوبة تبيع للجيران دون علم أبى . استحرمت واحدة ـ كانت تحب أمى ـ سرقة شقاء الرجال والعيال .
زنوبة تبيع الذرة والأرز لتأكل بلح الشام والحلوى .
كان أبى على فراش الموت . قام ليضربها ، فلكزته "إنت لسه فيك صحة يا راجل" .
عشرة أعوام على رحيلك يا أبى .
أنت مسؤول عن عشرين عاما من عمرى .
ولن أسامحك .
الساعة تقترب من الثانية عشرة . قدمى تخبط إسفلت الطريق من المشروع .
رشاح الصرف واصلا للبلدة .
أرمى بعينى لاخضرار الحقول ، ثم تخرج من الصدر آهة .. هنا العشر قراريط التى اشتراها عرفة ـ بفلوس زوجته ـ مؤخرا من عيال زنوبة .. يتمايل زرعها . يزرعها الآن محمد . أذكر عرفة مشمرا جلبابه فى حر الظهيرة . يضرب فأسه فى خطوطها. ويزعق فىّ أن أضرب الجاموسة المتوقفة فى مدار الساقية بالفرقلّة . ويتساقط الصمغ المتجمد فى شقوق شجرة السنط تحت ضربات سن قلمى . أتسلق وقت غفلة أبى أو عرفة شجرة السنط لأقطع منها فرعا كى أضرب الجاموسة .. وأجمع الصمغ السائل من عينى الشجرة فى حقنة بنسلين فارغة محكما عليها الغطاء الأحمر .
ربما تكون الشجرة باقية لكن الأرض !!
من مزق الأرض وباعها ؟؟
أكان عليك يا عرفة أن تجرب الترمس مثلى . تحاول الوقوف على كوبرى مسطرد ـ بعربة خشبية ـ ولم تجد موطأ لقدم .
العربات الآتية من عبود متجهة للمسلة أو بهتيم القادمة من شبرا ذاهبة إلى المطرية ، السرفيس ، الملاكى ، النقل ، السريحة ، عربات الفول المدمس، الكشرى، اللب، كلهم احتلوا المكان يا عرفة.. لم يتبق لنا إلا أقداما تتخبط فى شوارع وأزقة يعلوها الغبار وأكوام القمامة.
يقبلنى من يحتكر توريد الترمس ـ سريحا آخر ـ يقول أن هذه منطقته .. ربما نتبادل السب ، يحتدم الجدل ، فنشتبك بالأيدى . يضحك علينا سكان البيوت ، ولا ينزل أحد كى يشترى . تتورم قدمى ويجف الحلق .
ونجلاء تنحنى كل سنة ـ على ماكينة الخياطة ـ أكثر .
عشر سنوات ونعافر .
قرأت الفاتحة لسيدى " على النجار " تتمايل أعواد الفول والشمس تختال بسطوعها على الغيطان ، ينزل أبو قردان يغرس منقاره الطويل فى طين الأرض باحثا . ويصعد .
ترتاح روحى إذ أقترب من طحلة بردين . أحبها وأمقتها معا . أحب شوارعها .. بيوت الطين .. يتجلى من فوق أسطحها قش الأرز . أما صوامع الطين الواقفة فى شموخ فهى مملوءة بالحبوب . أنا رأيت تلك الصوامع فى بيتنا سرعان ما تنقص ويسأل أبى زنوبة عن السر فتقول " العيال كبرت وبتاكل " .. أحب الجرن ولعب الاستغماية ، نجرى بين حوارى طحلة ، نختبئ فى الأزقة المظلمة ولا نخاف ننادى على بعضنا حين نحس بالتعب . نتجمع عند " الأمة " فى الجرن . ونختتم ليلتنا تحت شجرة الصفصاف نتبادل الحكايات والمواقف المضحكة ، نتبارى فى إظهار بطولاتنا الوهمية مع الكبار ؛ أحس دفئا حين أدخلها . ولا أعرف لماذا يغتم القلب قى لحظات . حزن كدبيب النمل يتسرب إلى النفس . هذا الولد الذى كنته منذ عشرين عاما يطرده أبوه . يغلق دونه الأبواب .
أفترش حصير المسجد ، أو الخلاء أمام بيت عمتى . بزحف البرد إلى عظامى ـ ليلا ـ فأتكور .. أحتمى بالجوالات المهملة .. يتشممنى كلب عابر ، حين تكون زنوبة قد أوسعت ساقيها ، فيأتيها أبى ، يمضغ الطعام والدفء . حتى " عرفة " العاقل الذى تعيرنى بصلاحه ، ويزرع معك الأرض طردته أيضا . من أجل زنوبة .. لا .. هى زنوبة من تطرد أو تعفو .
كيف جعلتك هكذا يا أبى ؟!!
ثانى يوم
قال الحاج أحمد زوج عمتى : عمك صبحى سابلك الفلوس دى .
وعليك أن تدفع أنت وأخوك ما يخصكما لهدم المقبرتين، ورفع البناء.
وضعت الفلوس ـ بلا اهتمام ـ فى جيب الصديرى .
طبق الجبن القريش والقشدة على طبلية قصيرة الأرجل أمامه . قال : أفطر .. قعدت . حشوت بطنى الخاوى منذ ظهر أمس . شربت الشاى .. جاءت عمتى . كانت فوق سطح الدار تقشر أغلفة الذرة .
بادرتنى : مال صوتك واطى .. معرفش إنك هنا .
ابتسمت .
تابعتنى بنظراتها من أن لآخر .
قالت : مسهّم ليه يا ولا ؟
رد الحاج : سبيه يا أم السيد .
وضعت قدمى فى الشبشب وانطلقت إلى الدار كى ألحق بإبراهيم قبل ذهابه إلى المزرعة التى يشتغل فيها . بالأمس لم أتحدث معه ، باركت له على المولود . أعطيت زوجته النقوط . كانت ليلة طويلة ما لها آخر . سمعت فى الليل دقا على بابى . كان محمد عائدا متأخرا . ربما دارت دماغه ، فأخطأ باب زوجته . حاولت النوم فما جاءنى غير وجوه الراحلين . أتقلب على الفراش إثر تسرب البراغيث إلى جسدى مرحبة بحضورى . كان الولد الشقى يطلع منى زاحفا مشكشكا الذاكرة .. أتحسس الشباك الحديدى للسرير . أذكر بهية أختى ، طلبت منها السرير لكى أنام عليه ، وأحتجز به أودتى ـ ميراثى ـ فى دار أبى . وأضع القفل على بابها .
زنوبة تستحوذ على الدار . وأرض أبنائها . وتبيع للناس ـ وللفلوس ـ حتى آخر قيراط .
إبراهيم يكلم الولد النائم فى أقماطه كما لو كان رجلا . يزعق فيه آمرا بالسكوت . قلت تعالى معى اليوم نهد المقبرتين . قال : والمزرعة . قلت : ساعتين يا أخى . وافق متضررا .
الريح تصفر وإبراهيم يحمل الفأس ومقطفىْ الجلد . ينظر حواليه . قامات الكافور تتمايل وسط المدافن . تراب ناعم يهبط بأقدامنا . السكون يبعث على الوحشة . قرأت الفاتحة ، إبراهيم يصفر . نبهته أن يقرأ ، فردد الفاتحة بصوت عال . هل عقل إبراهيم أبيض ؟!!
قد قارب العشرين، لا يستحق الأربع قراريط التى باعتهن – من نصيبه - لزواجه.
وقفت أمام مقبرة أمى .. أردد قصار الصور . أذكر قوالب الطوب والسيدة واختفائها. ولم يرتعش القلب . أتحسس بيدى محارة المقبرة ، فتنهار .. هنا قعدت بهية تنادى على أمها . حملت التراب بيدها وحطت على شعرها المحلول لم يكن سوى التراب .
إبراهيم وقف كحمار ربطته فى الأرض ونسيته . لم ينزل من على كتفه الفأس ومقطف الجلد .
سحبت من بين يديه الفأس . وطلبت الأجنة . مد يده بتراخ . كدت أوبخه لكنى تراجعت ..
هيبة المكان منعتنى .
بجوار قبر أبيه وقف واضعا يده على الشاهد . أخذت أهيل بالأجنة بعضا من المحارة ـ مقبرة أمى ـ ثم أثبت طرفها الحاد بين تجاويف الطوب . الإسمنت غائر بين القوالب الحجرية المتآكلة الحواف . دققت .
تأبى الطوب أن ينحل عن بعضه بعد عناق طويل . أدق .. تسقط الأجنة . وإبراهيم نائم بجزعه محتضنا الشاهد . صرخت فيه ، أفاق مذعورا .
بكل قوتى ضربت العناق الحميم ، فانهارت كتلة حجرية .. سقطت داخل المقبرة ، خارت قواها وأشعرتنى أنى تجبرت عليها . بدقة واحدة فصلت العلاقة القديمة .تمزق خيط التلاحم . بانت عظام المقبرة ـ لحظة ولاحظت عظاما تندك فور مرور الهواء إليها . حتى العظام تأبى الحياة.
… أكملت الهدم بتؤدة . مسح إبراهيم وجهه أكثر من مرة ؛ كان ماردى يتطلع لأطلال مقبرته ـ بداخله ـ كلما سقط حجر . كأنه يسقط فى نفس حجرة مظلمة. يتعثر.. يقوم.. يقابلنى فى حوارى طحلة فأتضاءل، أولى الأدبار فارا منه
الآن .. كيف أفر ..؟ وإلى من ..؟ وممن أفر ..؟!
من ماردى الذى يعذبنى.. ؟.
أم من الجوالات القديمة فى برد شتاء قاس .
أم من زنوبة وطحلة كلها .
يا ألله كم أنت رحيم .
إبراهيم كوم ناتج الهدم سليما ورصه بنظام .
اندفعت إلى المقبرة الملاصقة ـ لأبى ـ سبقنى إبراهيم قاتئلا : استنى . بسمل وتحلقت شفتاه بما لا أفهمه . إنه لا يحفظ شيئا .. لا يعرف القراءة . ألحقه أبى بمعهد التربية الفكرية فى الزقازيق بعدما رسب ثلاث سنوات ولم يفلح .
قلت : كفاية يا إبراهيم .. أبوك مات من عشر سنين . تراجع متضايقا ؛ كأنه لا يصدق
أن الأب ملت فعلا .
ما تبقى من العظام خمسة جماجم . أخرجت من مقبرة أمى اثنتين وثلاث من مقبرة أبى . لملمت بقايا العظام المنهارة .. كومتها فى الوسط . إبراهيم يتطلع للعظام . يدقق النظر . قلت أرسله إلى البلدة كى يحضر البناء والطوب من دار الحاج أحمد زوج عمتى حتى أستكمل الهدم .
نظرت إلى الغيطان المحيطة بالمدافن . والغيط القريب الذى باعته زنوبة بعد موت أبى بعام واحد .. أمى وقفت تبكى على أختى ثناء وهى ذاهبة ـ من هنا ـ إلى أبى بالغداء .
كيف تسمرت قدماها فى الأرض ؟. قالت بهية : انغرست فى الأرض تحاول نقل قدميها ولم تقدر
كأن واحدا يمسك بهما . دموعها نزلت من أجل ثناء وعلى حالها .. " خدينى يا أختى " .. لولا عبور واحد أثناء القيالة وبسؤاله عن سبب وقفتها هكذا . لما انفك لجام قدميها .
تحسستُ الجماجم واحدة .. واحدة .. من أمى فيكم ؟؟
تطاير التراب فى وجهى، الريح تعفر المزارع ، تلطم بقوة أعالى الكافور؟
قعدت بجوارهم . لامست يدى واحدة تنظر نحوى .. رفعتها إلى وجهى .. ترانى كنت قاعدا عند قدميك ـ ابن عامين ـ فى مرضك الأخير .. أشد جلبابك . هل نظرت لى وبكيتِ ؟
أم تركتنى للقريبات والعيال . لا أذكر شيئا .. هل أجولة الملح التى حطت على قدميك فى تلك القيالة أمام المدافن هى سر موتك .
ثلاثون عاما يا أمى ، أبكى ولا أحد يحس بألمى . أنا ابنك ، لماذا تركتنى تخسف بى الحفر ولا أصل ـ أبدا ـ التلال . تههدنى يد " بهية " ومئات الأيدى تحفر فى جسدى كرابيج الألم .. صرت
لا تقدرين يا بهية على آلامى ، تتأبى على مراهم يديك .
اتركينى للعطش ، لا ماء يروى ظمأى . انفلتت الجمجمة آخذة وضعها الأول . مرتاحة لدفء التراب .. جريت تاركا الفأس والعظام ذاهبا إلى الطلمبة ـ الموجودة أول المدافن ـ أديرها . لم تدر . أضع فى قلبها ماء عكرا من القناية وأدير . يزيِّق الحديد ؛ قعدت بجوارها تاركا يدى عليها غسلت وجهى من ماء القناية الجارى . رطوبة الماء أغرتنى ، فانبطحت على بطنى ومددت فمى . يا رب العباد كم أنت رحيم .
تقابلنى عمتى محاسن كعادتها بوجهها البشوش . تقول :
أجيب غدا ..؟
قلت : تغديت مع البنّا .
سألت عن المقبرتين وهل أكملت البناء ..؟ .
قلت : فى مرة أخرى نستكمل أعمال المحارة . سألت عن العظام
قلت : أعدتها إلى جانب المقبرة .
نادت على امرأة ابنها تستعجل الشاى ، ثم اقتربت . بجانبى على الحصيرة . تملتنى جيدا وقالت : بقالك شهر مجيتش .
: ظروف .
: لونك رايح ليه يا طاهر ؟ .. انت تعبان ؟ .
: شوية .
نفس التعب ؟.
وليت وجهى تجاه الأرض الفضاء فى الخارج . كانت الشمس قرصا أحمر يسقط وراء البيوت البعيدة
قالت : حبت لك اتنين كيلو جبنة من أم السعد .
: مابشتغلش اليومين دول يا عمه .
: يعنى البطن هتبطل ؟
تحوطنى الشرود وشكل جمجمة أمى يطالعنى . قلت لنفسى من يعرف ؟ ربما كانت لجدتى أو عمة أبى أو ثناء ..
عادت عمتى تسألنى عن العيال وامرأتى .
قلت : بخير .
قالت : وانت كمان بخير ؟
: الحمد لله .
: يا بنى ياما دقت على الراس طبول .
كان كلامها معادا . الناس لا تقدر متاعب الناس .. وأنى أقود مركبا ولو غفلت لحظة يتحطم . ما ذنب امرأتى .. ما ذنب حمادة وشيماء .
قلت : ما ذنبى أنا.. ؟؟
ما أكثر ذنوبنا يا عمتى .. كفى عن دق مسامير الحياة فى نعشى .
نهضت قائلا : أصلى المغرب .
أهرب من كل المتاعب إليك
كيف أودعت الألم فى جسمى
فك أسرى يا رحيم .
قالت زنوبة : تدفع معانا فى أكلة سمك .
تحاول أن تبعث الحياة فى عروق الدار . تضحك بلا داع . تستوقف امرأة محمد ـ ابنها الكبير ـ سائلة عن زوجها الضائع مع زملائه الحشاشين .
تطلع إلى المقاعد . تدق الباب . فلا يفتح لها ابراهيم . تقول : نايم من العصر . أنت عملت فيه إيه ، تبددت رغبتى فى الكلام .. سلمت عليهم .
زنوبة تحاول تأخيرى للعشاء قائلة مش مهم تدفع . قلت :
العشاء فى الزقازيق . أشوف أولاد أختى بهية وأبيِّت هناك .
اندفعت إلى عمتى .. حملتنى الجبنة والأرز لعرفة . كأن طحلة تدير وجهها عنى . تنطفئ أنوارها فى قلبى . يشملها ضيق النفس .. ومشاجرات ما قبل العشاء . لهاث البهائم العائدة فى غبش المغرب من الغيطان . وراءها أصحابها على حميرهم . صامتون .. متعبون .. يرفعون أياديهم بالتحية . صوتهم خافت ، ذابل كفتيل لمبة جاز فى أماسى الطفولة .


الزئبق


[ مدخل ]

* كل ما تظن أنه الحقيقة .. ربما كان بحرا من سراب .
* هؤلاء الناس أعرفةم ، كلما أمسك بالقلم يفلتون .
* كل ما يدعو للضحك يشدنا إلى البكاء .
* يا خالق الممر أرشدنى لفجوة كى أستريح .
* ربما لأنك تحبهم تظن أنهم شرفاء .
* كدب مساوى ولا صدق منعكش .
* أنتم كاذبون . لكنى أحبكم إذ تفتحون عالما واسعا للرؤى .
* الحزن ـ وحده ـ لا يكفى .
* أنا هكذا .


فتحى عبد التواب

للأمام تغوص أقدامنا فى رمال الحقيقة. نفتح أبوابا للرؤية فلا تنزاح التكهنات.
كان الولد الذى يشبهنى يتحسس كفل الحياة ، فتتفتح رغبته دائمة السطو على عنفوان الجسد . لا يلتئم .. تنقصه الحقيقة فيتعثر فى حجر أملس يشج الرأس مبعثرا ملايين النمل والدهشة . يخرج ملتاعا ، أحاوره فى ظلماتى مادا يدى . إليه يضحك ويتركنى . حين قعد الطاهر على كنبة الأنتريه كادت تنفجر من ثقل العالم الذى حط عليها . لم يواجهنى صخبه الرنان ـ كعادته ـ إنما حط سحابات داكنة كنست رغبتى فى الكلام ، الطواف . دار الكلام تافها عن حال العيال والزوجة وخالى عرفة وأبنائه ؛ والبراغيث التى تأكل الجلد فى ليال مظلمة . وهو غير مرتاح للحَك .. غير نائم .. غير صاح .
قلت : دمت لنا يا سيدى القلق . ودامت الفراشات الساقطات من ألق الطيران على أجنحتها دم غادر . قال الطاهر هل لك فى كأسين معتقين من نبيذ حياتى ، بدلا من تكهناتك الخاصة عن بشر من وهم خيالك يحبون ؛ قلت : ويغادرون إلى غير شواطئ . ينكفئون على أعتاب البداية ؛ محاولين فك طلاسم انهيارهم . ولم أرد .
سكت الولد الذى أحببته ، غاصت قدماه فى وحل الطريق والظلام . الكلاب مسعورة لا تكف عن النباح ، قلت يا طاهر أنت استطعت أن تعيش..تقتنص دفء الزوجة والعيال. قال: وأنت تزوجت..ما الفرق ؟
قلت كبلنى الولد بقيود وقفته لما اندفعت للدفء . للتلاحم .. أرخى حبال التواصل ، وتركنى عند بدء الظلام والظلام ظلمة . كأننا مخلوقات زئبقية تستطيل أمامنا مسافات الألم ، فينبعث فى الظلام ، فى النوم ، فى النكات الساخرة ، لكأن الحزن مقيم معنا دائما ، نندفع بلا هوادة محاولين اختصار المسافات غير مدركين أننا ننفلت حين تسبح بنا الأحلام .. ونتمدد على أول الدرب كل صباح . حاولت السير رغم قيودى . لم يندهش الولد . بل وضع فوق كاهلى الطوب والحصى . فى خلواتى يقول هئ ، وينسحب ساخرا . أمسكت بياقته .. كدت أتفل فى وجهه قائلا : لماذا تجرجرنى فى صحراء تعرف خطواتى ولا تجيب ؛ فما رد ، إنما فتح أمامى مغارات سوداء ، ورؤى كابوسية . قال : أنت فى البدء فاتحد . ولا تسلم ذاتك لدق المسامير . ذاكرتك أول الطريق للهلاك ؛ كنت واضعا يدى أسفل ذقنى غائصا فى تقاطيع الطاهر التى تشبه الولد . واضح أن الطاهر وقع فى فخاخ الدفء والعيال وأفاق هو الآخر على حصير فرش فوق حصى وزلط وحجارة مدببة . أداعب فيه الصبى الذى رافقته دافعا إليه ماء التجلى . أشده من وهدة التقوقع والتساؤل ، فتبين منه ابتسامة هازئة . قال : ماعليك إذا تركتنى ما أنقصتنى ، وإذا مددت يديك ما نجدتنى . قلت : الدور إياه . قال : أنت تعرف سر بلائى أوشكت أيام المرضى على الانتهاء . ضحكت .
كأنه تعاقد مع الإفاقة بانقضاء الأيام . وكل يوم تفر منى الأيام تاركة أشعة باهتة تضيف إلى ضباب الرؤى ؛ رؤى مهشمة ، أحلاما ؛ نواقيس خطر تتأهب لافتراسى . دبيب الشيب يتسحب قطا بريا يفاجئنى صدفة فى المرآة . أنت يا صديقى الشيب ملأت هوامش النفس . تفتح كل يوم حوارات جديدة تحت عجلات الحضور والانصراف والتلاميذ على مقاعدهم يكتبون البراءة ، يرسمون صورة لوطن تجلى دفعة واحدة .
أنا الواقف فى الطابور لم أزل . لم أتقدم للأمام أو الوراء . فقط أسير فى المكان ناظرا حولى بعدما نزلت زوجتى إلى النسوة زوجات إخوتى .. وبقيت ندى تنشر شغبها الوردى معلنة عن حضور فذ ، قائمة بأدوار عدة ، كى تلفت انتباهنا ـ أنا والطاهر ـ كنا قد صعدنا إلى جبل عال ، أشرفنا على الهاوية . متشبثين بندى وحمادة وشيماء معلنين إفلاسنا .
فى تلك الأوقات دخنت سيجارة والطاهر رفض التدخين ، رغم أنه يجارينى أحيانا .
لا أعرف للآن سر شراهتى للسجائر . كنت إلى وقت قريب أدخن المعسل والطاهر يشاركنى . كأنه عشق القرويين أمثالنا . ربما يرجع السر إلى اكتشافى الأخير . كثرت التكهنات . إذا كان التحليل إيجابيا فلا ضير . أهلا سيدى الفناء الجميل . قال صديقى الشاعر لآخر تجاوز الثمانين [ جميل هو الموت لك ] ولم يمت ؛ وقد تجاوز ـ الآن ـ التسعين .
سأل الطاهر عن مشروعاتى : سكت ولمن أقل أننى أخطط بطريقة محكمة . رؤية ساخرة تشكل بحميمية نهايتى المتوقعة .
أوعز الطاهر لى ونحن فى انتظار القطار ليلا كى يعود إلى شبرا ومنها إلى مسطرد قائلا : أكتب حكايتى . قلت : لا أكتب حكايات أحد .. فقط تنفتح الرؤى الغائمة على عالم أكثر غيوما قاحلا ، فجا لا أرتاح إليه . قال : عالمنا واحد ، فلا تتفلسف خذ طينة بينة وشكلها .. تذكرت الطير الموزع على جبلين ، مختلط اللحم والدم والملامح . إذا ناديت . لن يأتى سعيا . كان متعبا ، ولم يطل ولم أناقش حتى طواه الليل والقطار فى المساء من ذلك اليوم .. كتبت أوراقا كثيرة ومزقتها عن بدء الولد .. ضياعه فى معمل التحاليل بين تكهنات وآراء متناقضة .. حوادث صغيرة تجثم على الروح . ولم أفلح فى خلق علاقات واضحة .
أدور فى أركان غرفتى ناظرا تارة للبعيد وأخرى لهالات دخان سجائرى . أدخل مع أنفاس السجائر إلى أعماقى ، شاعرا أن خنجرا ينتظر ـ منى ـ إغفاءة أو بدونها سيلتحم غائصا ، مسربا سمه اللذيذ إلى الجسد ، فيرتخى تماما .. تماما . يمسك بالصغيرة ندى . يودع أمه وزوجته وإخوته وآخر خيوط الحياة .
فى المرة التى لم يستطع تحديد رقمها . استقرت البداية آخذة مسوح الحقيقة ، لابسة نمنمات الوجوه التى ترغب فى الانعتاق من ظلمة النسيان .
كان الطاهر ساحبا خيط البداية . يدور ويلف ، يخبط رأسه فى حوائط صلبة لا ترتاح إلى دق المسامير . فلما تعب أسلمنى طرف الخيط : وفرّ ؛ فى قطار العاشرة والثلث ليلا إلى صقيع حياته ؛ موقنا أنى لن أفلت الخيط . لذلك لم يحاول مجادلتى . إنما أوقفنى أمامه فى غرفتى ؛ قلت أتملى .. فتمليت .. إذا هم ينهضون فاتحين أعينهم صوب الوراء تارة وصوب التخوم البعيدة . كأن لمعانا يشبه البريق ، يتراوح بين السطوع والخفوت . يرمينى أحدهم بنظرة قاسية كأنه يتوعدنى . ينشغل الباقون .
بعدما انشغلت يإشعال سيجارتى ، كانوا قد اشتبكوا مع بعضهم فى عراك محتد . رمتنى زنوبة بنظرة ذات معنى فارتبكت لحظة ثم تشاغلت .
أمسكت هى خيوط اللعبة واختفت .
أخذو يهمهمون عن اختفائها ، ويطالبون بضرورة حضورها كى تكتمل الحكاية . ولأنى كنت أدرك ـ بحكمة باطنية ـ أنها اختفت كى تفسد عليهم مجلسهم . وتشغلهم من جديد .. فقد وليت وجهى تجاه ظلام بدأ ينادينى تركتهم فى غرفتى على حالهم . وتركت الأوراق ملقاة بلا نظام . قلمى على كوميدينو لبنى مغطى بزجاج سميك . تبين من تحته زهورا باهتا ، ومن فوقه طفاية وولاعة وأعقاب سجائر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن منتدى القصة العربية
لمشاهدة الموضوع كاملا .. اضغط على الرابط التالى
http://www.arabicstory.net/forum/index.php?showtopic=13649