Wednesday, March 4, 2009

إنهم يموتون في الربيع .. رواية جديدة صدرت.. للعربي عبد الوهاب

كتب الأديب والصديق / محمد عبدالله الهادى
فى يوم 13/2/2009


عن كتاب الأجيال صدرت رواية ( إنهم يموتون في الربيع) للقاص العربي عبد الوهاب عضو المنتدى
يأتي هذا العمل للعربي بعد عدة أعمال صدرت من قبل منها:
عزاف النار ـ قصص
أربع نخلات ـ قصص
خليج الطبالة ـ رواية
إنهم يموتون في الربيع هي الرواية الفائزة في المسابقة المركزية لهيئة قصور الثقافة عام 2000 ونشرت مسلسلة في صحيفة الجمهورية
سبق أن قمت بمناقشة هذه الرواية في نادي أدب الزقازيق
هذا وستتم مناقشتها السبت الأخير من هذا الشهر في فرع اتحاد الكتاب بالشرقية
رابط الغلاف وآمل أن يظهر
http://www.3rebo.com/my_work/araby.jpg




وهذا جزء من الرواية:
إنهم يموتون في الربيع
ـــــــــــــــــ
دق المسامير







الطاهر مرزوق
مابين طحلة ومسطرد تتخبط الآن قدمى .
ما بين الزقازيق ، وظلام الليل فى الشوارع الضيقة واصلا إلى الحجرة التى أسكننى إياها العم شوقى كنت أتخبط .
تعبت ـ يا طاهر ـ وأخيرا تحت صحن من الترمس تنادى .
يستوقفك شلن .. بريزة .. يستزيدون .. تزيدهم .. حبات .. ملاليم .
صارت القاهرة أفعى تلتهمنى كل يوم . أموت بين شوارعها ، وعماراتها العالية .. أتعثر فى الحفر والبالوعات والشوارع المتربة . على رأسى صحن الترمس وقراطيس ورقية . وأمامى شمس تصفر وتذبل فى طريقها للغروب .
راحت أيام عربات أنابيب الغاز ، مكسب عشرون جنيها فى اليوم .
كنت أتكرع كالتيس بعد أكل الكفتة والكباب .. أيام ليست بعيدة .. باعدت الوظيفة بينى وبين التكرع اللذيذ .. قبّلنى حمادة فى المدرسة . وقبلت الصغيرة شيماء .. أيام المرضى أوشكت على الانتهاء .. أخرج من حبسى . كيف حالــك ـ الآن ـ فى الحبس يا بهية ..؟ تختبئون فى شقوق السعودية حتى يحضر الحجاج من كل بلد ، كالنمل يزحفون . فينطلق سراحهم . يختلط الحجيج .. يتساوى القادم على ظهر سفينة بالمسافر كالبرق .
الساعة العاشرة صباحا ، والشمس مازالت تتبختر بين سحب رمادية ، ولا عربة تلين فتأخذنى
… لو تشعرين بألمى يا نجلاء رغم نومك بجوارى على سرير واحد . تقلقين بحضورك نومى ، وسكوتى ووهنى .. النقر القديم يعاود الدق … مسامير تخبط فى رأسى ، تكسر العظام .
يركبنى النوم . وعدم الرغبة فى رؤية الناس ، والطعام ، والحياة ، ماذا أفعل إذا كاد الشرود يقتلنى تحت عجلات عربة نقل منذ أسبوع ؟!
زحف العجلات أفاقنى . طار الطبق من فوقى . تبعثرت . ملعون الترمس والطواف بين العزب ومسطرد والمسلة . أحياء الغلابة متهالكة .
من يشترى يا ناس ؟
ترمس .. تسالى
تسالى .. يا ترمس
كيف اختصرت قوتى تحت صحن الترمس ؟ بين حارات وشوارع وبلكونات تشبه عجوزا . تقوس حتى لا مس الأرض . من المسؤول ..؟؟
حمادة .. شيماء .. أم حمادة .. أبى .. عرفة .. زنوبة .
أم العمل صباحا فى جامعة الأزهر . أحمل شكائر الأسمنت ، الطوب ، الرمل ، نبنى كشكا يصلح لخروف سيقتله الانتظار عند البوابة الفرعية بجامعة الأزهر حيث البرد ومراقبة اللاشئ .
مأمورية .
الأسبوع قبل الماضى أخذت ثلاث مأموريات على حساب كشك الأمن .
عربة نقل نصر بصندوق خشب .
" استنى يا أسطى "
بكل سرعة استندت على عجلة العربة . تعلقت بالأيدى الممدودة .
انطلق السائق . فور ارتفاع قدمه اختل توازنى فارتميت عليهم .
… ترانى وضعت القفل فى العجلة . الولد حمادة يتحنجل عليها . ربما يسحبها للعيال فى الشارع تركبها .. أو تكسرها .
ملعون النسيان .
ما كان يجب أن أسافر .
كادت الحوائط أن تكتم أنفاسى .
أذهب لدار أختى .. لا .. الزقازيق مازالت بعيدة . فلأنزل المشروع . أذهب إلى طحلة أولا . أود أن أنام وحدى .
ارتجت العربة ، وتلاعبت بالطريق .. واضح أن السائق يتمايل مع غنوة سلامات .
بهية ، إبراهيم ، عزيزة ، عرفة ، محمد ، مصطفى ، وأنا
غير من ماتوا من أمى ومن زنوبة .
كثيرون يا أبى وبرد الشتاء لا يرحم .
الصديرى خفيف .
وعربة مكشوفة تشكو لرب السماء ضعفها وانقيادها الفج لسائق غير مهتم .
ليست لى علاقة بك يا بلبيس . لا أحبك . ولا أعرف السر . ربما الرشاح .. رائحته النتنة .. المياه الطافحة تذكرنى بالشوارع المؤدية إلى أوضتى فى عزبة الحريرى ، حيث بيت العم شوقى الحاتى . ظلمة ونباح كلاب وخبط فوق رأسى .
لو جابت ولد .
امرأة إبراهيم أخى ، يكون فأرا صغيرا كأبيه . يستحق لطمتى له فى المرة السابقة ..
يسب الدين .. ؟!!!
تقول بهية " الخير راح من وشها " أنا شفت أواخر أيام الخير هذه .
كان الذرة يملأ سطح الدار . زنوبة تبيع للجيران دون علم أبى . استحرمت واحدة ـ كانت تحب أمى ـ سرقة شقاء الرجال والعيال .
زنوبة تبيع الذرة والأرز لتأكل بلح الشام والحلوى .
كان أبى على فراش الموت . قام ليضربها ، فلكزته "إنت لسه فيك صحة يا راجل" .
عشرة أعوام على رحيلك يا أبى .
أنت مسؤول عن عشرين عاما من عمرى .
ولن أسامحك .
الساعة تقترب من الثانية عشرة . قدمى تخبط إسفلت الطريق من المشروع .
رشاح الصرف واصلا للبلدة .
أرمى بعينى لاخضرار الحقول ، ثم تخرج من الصدر آهة .. هنا العشر قراريط التى اشتراها عرفة ـ بفلوس زوجته ـ مؤخرا من عيال زنوبة .. يتمايل زرعها . يزرعها الآن محمد . أذكر عرفة مشمرا جلبابه فى حر الظهيرة . يضرب فأسه فى خطوطها. ويزعق فىّ أن أضرب الجاموسة المتوقفة فى مدار الساقية بالفرقلّة . ويتساقط الصمغ المتجمد فى شقوق شجرة السنط تحت ضربات سن قلمى . أتسلق وقت غفلة أبى أو عرفة شجرة السنط لأقطع منها فرعا كى أضرب الجاموسة .. وأجمع الصمغ السائل من عينى الشجرة فى حقنة بنسلين فارغة محكما عليها الغطاء الأحمر .
ربما تكون الشجرة باقية لكن الأرض !!
من مزق الأرض وباعها ؟؟
أكان عليك يا عرفة أن تجرب الترمس مثلى . تحاول الوقوف على كوبرى مسطرد ـ بعربة خشبية ـ ولم تجد موطأ لقدم .
العربات الآتية من عبود متجهة للمسلة أو بهتيم القادمة من شبرا ذاهبة إلى المطرية ، السرفيس ، الملاكى ، النقل ، السريحة ، عربات الفول المدمس، الكشرى، اللب، كلهم احتلوا المكان يا عرفة.. لم يتبق لنا إلا أقداما تتخبط فى شوارع وأزقة يعلوها الغبار وأكوام القمامة.
يقبلنى من يحتكر توريد الترمس ـ سريحا آخر ـ يقول أن هذه منطقته .. ربما نتبادل السب ، يحتدم الجدل ، فنشتبك بالأيدى . يضحك علينا سكان البيوت ، ولا ينزل أحد كى يشترى . تتورم قدمى ويجف الحلق .
ونجلاء تنحنى كل سنة ـ على ماكينة الخياطة ـ أكثر .
عشر سنوات ونعافر .
قرأت الفاتحة لسيدى " على النجار " تتمايل أعواد الفول والشمس تختال بسطوعها على الغيطان ، ينزل أبو قردان يغرس منقاره الطويل فى طين الأرض باحثا . ويصعد .
ترتاح روحى إذ أقترب من طحلة بردين . أحبها وأمقتها معا . أحب شوارعها .. بيوت الطين .. يتجلى من فوق أسطحها قش الأرز . أما صوامع الطين الواقفة فى شموخ فهى مملوءة بالحبوب . أنا رأيت تلك الصوامع فى بيتنا سرعان ما تنقص ويسأل أبى زنوبة عن السر فتقول " العيال كبرت وبتاكل " .. أحب الجرن ولعب الاستغماية ، نجرى بين حوارى طحلة ، نختبئ فى الأزقة المظلمة ولا نخاف ننادى على بعضنا حين نحس بالتعب . نتجمع عند " الأمة " فى الجرن . ونختتم ليلتنا تحت شجرة الصفصاف نتبادل الحكايات والمواقف المضحكة ، نتبارى فى إظهار بطولاتنا الوهمية مع الكبار ؛ أحس دفئا حين أدخلها . ولا أعرف لماذا يغتم القلب قى لحظات . حزن كدبيب النمل يتسرب إلى النفس . هذا الولد الذى كنته منذ عشرين عاما يطرده أبوه . يغلق دونه الأبواب .
أفترش حصير المسجد ، أو الخلاء أمام بيت عمتى . بزحف البرد إلى عظامى ـ ليلا ـ فأتكور .. أحتمى بالجوالات المهملة .. يتشممنى كلب عابر ، حين تكون زنوبة قد أوسعت ساقيها ، فيأتيها أبى ، يمضغ الطعام والدفء . حتى " عرفة " العاقل الذى تعيرنى بصلاحه ، ويزرع معك الأرض طردته أيضا . من أجل زنوبة .. لا .. هى زنوبة من تطرد أو تعفو .
كيف جعلتك هكذا يا أبى ؟!!
ثانى يوم
قال الحاج أحمد زوج عمتى : عمك صبحى سابلك الفلوس دى .
وعليك أن تدفع أنت وأخوك ما يخصكما لهدم المقبرتين، ورفع البناء.
وضعت الفلوس ـ بلا اهتمام ـ فى جيب الصديرى .
طبق الجبن القريش والقشدة على طبلية قصيرة الأرجل أمامه . قال : أفطر .. قعدت . حشوت بطنى الخاوى منذ ظهر أمس . شربت الشاى .. جاءت عمتى . كانت فوق سطح الدار تقشر أغلفة الذرة .
بادرتنى : مال صوتك واطى .. معرفش إنك هنا .
ابتسمت .
تابعتنى بنظراتها من أن لآخر .
قالت : مسهّم ليه يا ولا ؟
رد الحاج : سبيه يا أم السيد .
وضعت قدمى فى الشبشب وانطلقت إلى الدار كى ألحق بإبراهيم قبل ذهابه إلى المزرعة التى يشتغل فيها . بالأمس لم أتحدث معه ، باركت له على المولود . أعطيت زوجته النقوط . كانت ليلة طويلة ما لها آخر . سمعت فى الليل دقا على بابى . كان محمد عائدا متأخرا . ربما دارت دماغه ، فأخطأ باب زوجته . حاولت النوم فما جاءنى غير وجوه الراحلين . أتقلب على الفراش إثر تسرب البراغيث إلى جسدى مرحبة بحضورى . كان الولد الشقى يطلع منى زاحفا مشكشكا الذاكرة .. أتحسس الشباك الحديدى للسرير . أذكر بهية أختى ، طلبت منها السرير لكى أنام عليه ، وأحتجز به أودتى ـ ميراثى ـ فى دار أبى . وأضع القفل على بابها .
زنوبة تستحوذ على الدار . وأرض أبنائها . وتبيع للناس ـ وللفلوس ـ حتى آخر قيراط .
إبراهيم يكلم الولد النائم فى أقماطه كما لو كان رجلا . يزعق فيه آمرا بالسكوت . قلت تعالى معى اليوم نهد المقبرتين . قال : والمزرعة . قلت : ساعتين يا أخى . وافق متضررا .
الريح تصفر وإبراهيم يحمل الفأس ومقطفىْ الجلد . ينظر حواليه . قامات الكافور تتمايل وسط المدافن . تراب ناعم يهبط بأقدامنا . السكون يبعث على الوحشة . قرأت الفاتحة ، إبراهيم يصفر . نبهته أن يقرأ ، فردد الفاتحة بصوت عال . هل عقل إبراهيم أبيض ؟!!
قد قارب العشرين، لا يستحق الأربع قراريط التى باعتهن – من نصيبه - لزواجه.
وقفت أمام مقبرة أمى .. أردد قصار الصور . أذكر قوالب الطوب والسيدة واختفائها. ولم يرتعش القلب . أتحسس بيدى محارة المقبرة ، فتنهار .. هنا قعدت بهية تنادى على أمها . حملت التراب بيدها وحطت على شعرها المحلول لم يكن سوى التراب .
إبراهيم وقف كحمار ربطته فى الأرض ونسيته . لم ينزل من على كتفه الفأس ومقطف الجلد .
سحبت من بين يديه الفأس . وطلبت الأجنة . مد يده بتراخ . كدت أوبخه لكنى تراجعت ..
هيبة المكان منعتنى .
بجوار قبر أبيه وقف واضعا يده على الشاهد . أخذت أهيل بالأجنة بعضا من المحارة ـ مقبرة أمى ـ ثم أثبت طرفها الحاد بين تجاويف الطوب . الإسمنت غائر بين القوالب الحجرية المتآكلة الحواف . دققت .
تأبى الطوب أن ينحل عن بعضه بعد عناق طويل . أدق .. تسقط الأجنة . وإبراهيم نائم بجزعه محتضنا الشاهد . صرخت فيه ، أفاق مذعورا .
بكل قوتى ضربت العناق الحميم ، فانهارت كتلة حجرية .. سقطت داخل المقبرة ، خارت قواها وأشعرتنى أنى تجبرت عليها . بدقة واحدة فصلت العلاقة القديمة .تمزق خيط التلاحم . بانت عظام المقبرة ـ لحظة ولاحظت عظاما تندك فور مرور الهواء إليها . حتى العظام تأبى الحياة.
… أكملت الهدم بتؤدة . مسح إبراهيم وجهه أكثر من مرة ؛ كان ماردى يتطلع لأطلال مقبرته ـ بداخله ـ كلما سقط حجر . كأنه يسقط فى نفس حجرة مظلمة. يتعثر.. يقوم.. يقابلنى فى حوارى طحلة فأتضاءل، أولى الأدبار فارا منه
الآن .. كيف أفر ..؟ وإلى من ..؟ وممن أفر ..؟!
من ماردى الذى يعذبنى.. ؟.
أم من الجوالات القديمة فى برد شتاء قاس .
أم من زنوبة وطحلة كلها .
يا ألله كم أنت رحيم .
إبراهيم كوم ناتج الهدم سليما ورصه بنظام .
اندفعت إلى المقبرة الملاصقة ـ لأبى ـ سبقنى إبراهيم قاتئلا : استنى . بسمل وتحلقت شفتاه بما لا أفهمه . إنه لا يحفظ شيئا .. لا يعرف القراءة . ألحقه أبى بمعهد التربية الفكرية فى الزقازيق بعدما رسب ثلاث سنوات ولم يفلح .
قلت : كفاية يا إبراهيم .. أبوك مات من عشر سنين . تراجع متضايقا ؛ كأنه لا يصدق
أن الأب ملت فعلا .
ما تبقى من العظام خمسة جماجم . أخرجت من مقبرة أمى اثنتين وثلاث من مقبرة أبى . لملمت بقايا العظام المنهارة .. كومتها فى الوسط . إبراهيم يتطلع للعظام . يدقق النظر . قلت أرسله إلى البلدة كى يحضر البناء والطوب من دار الحاج أحمد زوج عمتى حتى أستكمل الهدم .
نظرت إلى الغيطان المحيطة بالمدافن . والغيط القريب الذى باعته زنوبة بعد موت أبى بعام واحد .. أمى وقفت تبكى على أختى ثناء وهى ذاهبة ـ من هنا ـ إلى أبى بالغداء .
كيف تسمرت قدماها فى الأرض ؟. قالت بهية : انغرست فى الأرض تحاول نقل قدميها ولم تقدر
كأن واحدا يمسك بهما . دموعها نزلت من أجل ثناء وعلى حالها .. " خدينى يا أختى " .. لولا عبور واحد أثناء القيالة وبسؤاله عن سبب وقفتها هكذا . لما انفك لجام قدميها .
تحسستُ الجماجم واحدة .. واحدة .. من أمى فيكم ؟؟
تطاير التراب فى وجهى، الريح تعفر المزارع ، تلطم بقوة أعالى الكافور؟
قعدت بجوارهم . لامست يدى واحدة تنظر نحوى .. رفعتها إلى وجهى .. ترانى كنت قاعدا عند قدميك ـ ابن عامين ـ فى مرضك الأخير .. أشد جلبابك . هل نظرت لى وبكيتِ ؟
أم تركتنى للقريبات والعيال . لا أذكر شيئا .. هل أجولة الملح التى حطت على قدميك فى تلك القيالة أمام المدافن هى سر موتك .
ثلاثون عاما يا أمى ، أبكى ولا أحد يحس بألمى . أنا ابنك ، لماذا تركتنى تخسف بى الحفر ولا أصل ـ أبدا ـ التلال . تههدنى يد " بهية " ومئات الأيدى تحفر فى جسدى كرابيج الألم .. صرت
لا تقدرين يا بهية على آلامى ، تتأبى على مراهم يديك .
اتركينى للعطش ، لا ماء يروى ظمأى . انفلتت الجمجمة آخذة وضعها الأول . مرتاحة لدفء التراب .. جريت تاركا الفأس والعظام ذاهبا إلى الطلمبة ـ الموجودة أول المدافن ـ أديرها . لم تدر . أضع فى قلبها ماء عكرا من القناية وأدير . يزيِّق الحديد ؛ قعدت بجوارها تاركا يدى عليها غسلت وجهى من ماء القناية الجارى . رطوبة الماء أغرتنى ، فانبطحت على بطنى ومددت فمى . يا رب العباد كم أنت رحيم .
تقابلنى عمتى محاسن كعادتها بوجهها البشوش . تقول :
أجيب غدا ..؟
قلت : تغديت مع البنّا .
سألت عن المقبرتين وهل أكملت البناء ..؟ .
قلت : فى مرة أخرى نستكمل أعمال المحارة . سألت عن العظام
قلت : أعدتها إلى جانب المقبرة .
نادت على امرأة ابنها تستعجل الشاى ، ثم اقتربت . بجانبى على الحصيرة . تملتنى جيدا وقالت : بقالك شهر مجيتش .
: ظروف .
: لونك رايح ليه يا طاهر ؟ .. انت تعبان ؟ .
: شوية .
نفس التعب ؟.
وليت وجهى تجاه الأرض الفضاء فى الخارج . كانت الشمس قرصا أحمر يسقط وراء البيوت البعيدة
قالت : حبت لك اتنين كيلو جبنة من أم السعد .
: مابشتغلش اليومين دول يا عمه .
: يعنى البطن هتبطل ؟
تحوطنى الشرود وشكل جمجمة أمى يطالعنى . قلت لنفسى من يعرف ؟ ربما كانت لجدتى أو عمة أبى أو ثناء ..
عادت عمتى تسألنى عن العيال وامرأتى .
قلت : بخير .
قالت : وانت كمان بخير ؟
: الحمد لله .
: يا بنى ياما دقت على الراس طبول .
كان كلامها معادا . الناس لا تقدر متاعب الناس .. وأنى أقود مركبا ولو غفلت لحظة يتحطم . ما ذنب امرأتى .. ما ذنب حمادة وشيماء .
قلت : ما ذنبى أنا.. ؟؟
ما أكثر ذنوبنا يا عمتى .. كفى عن دق مسامير الحياة فى نعشى .
نهضت قائلا : أصلى المغرب .
أهرب من كل المتاعب إليك
كيف أودعت الألم فى جسمى
فك أسرى يا رحيم .
قالت زنوبة : تدفع معانا فى أكلة سمك .
تحاول أن تبعث الحياة فى عروق الدار . تضحك بلا داع . تستوقف امرأة محمد ـ ابنها الكبير ـ سائلة عن زوجها الضائع مع زملائه الحشاشين .
تطلع إلى المقاعد . تدق الباب . فلا يفتح لها ابراهيم . تقول : نايم من العصر . أنت عملت فيه إيه ، تبددت رغبتى فى الكلام .. سلمت عليهم .
زنوبة تحاول تأخيرى للعشاء قائلة مش مهم تدفع . قلت :
العشاء فى الزقازيق . أشوف أولاد أختى بهية وأبيِّت هناك .
اندفعت إلى عمتى .. حملتنى الجبنة والأرز لعرفة . كأن طحلة تدير وجهها عنى . تنطفئ أنوارها فى قلبى . يشملها ضيق النفس .. ومشاجرات ما قبل العشاء . لهاث البهائم العائدة فى غبش المغرب من الغيطان . وراءها أصحابها على حميرهم . صامتون .. متعبون .. يرفعون أياديهم بالتحية . صوتهم خافت ، ذابل كفتيل لمبة جاز فى أماسى الطفولة .


الزئبق


[ مدخل ]

* كل ما تظن أنه الحقيقة .. ربما كان بحرا من سراب .
* هؤلاء الناس أعرفةم ، كلما أمسك بالقلم يفلتون .
* كل ما يدعو للضحك يشدنا إلى البكاء .
* يا خالق الممر أرشدنى لفجوة كى أستريح .
* ربما لأنك تحبهم تظن أنهم شرفاء .
* كدب مساوى ولا صدق منعكش .
* أنتم كاذبون . لكنى أحبكم إذ تفتحون عالما واسعا للرؤى .
* الحزن ـ وحده ـ لا يكفى .
* أنا هكذا .


فتحى عبد التواب

للأمام تغوص أقدامنا فى رمال الحقيقة. نفتح أبوابا للرؤية فلا تنزاح التكهنات.
كان الولد الذى يشبهنى يتحسس كفل الحياة ، فتتفتح رغبته دائمة السطو على عنفوان الجسد . لا يلتئم .. تنقصه الحقيقة فيتعثر فى حجر أملس يشج الرأس مبعثرا ملايين النمل والدهشة . يخرج ملتاعا ، أحاوره فى ظلماتى مادا يدى . إليه يضحك ويتركنى . حين قعد الطاهر على كنبة الأنتريه كادت تنفجر من ثقل العالم الذى حط عليها . لم يواجهنى صخبه الرنان ـ كعادته ـ إنما حط سحابات داكنة كنست رغبتى فى الكلام ، الطواف . دار الكلام تافها عن حال العيال والزوجة وخالى عرفة وأبنائه ؛ والبراغيث التى تأكل الجلد فى ليال مظلمة . وهو غير مرتاح للحَك .. غير نائم .. غير صاح .
قلت : دمت لنا يا سيدى القلق . ودامت الفراشات الساقطات من ألق الطيران على أجنحتها دم غادر . قال الطاهر هل لك فى كأسين معتقين من نبيذ حياتى ، بدلا من تكهناتك الخاصة عن بشر من وهم خيالك يحبون ؛ قلت : ويغادرون إلى غير شواطئ . ينكفئون على أعتاب البداية ؛ محاولين فك طلاسم انهيارهم . ولم أرد .
سكت الولد الذى أحببته ، غاصت قدماه فى وحل الطريق والظلام . الكلاب مسعورة لا تكف عن النباح ، قلت يا طاهر أنت استطعت أن تعيش..تقتنص دفء الزوجة والعيال. قال: وأنت تزوجت..ما الفرق ؟
قلت كبلنى الولد بقيود وقفته لما اندفعت للدفء . للتلاحم .. أرخى حبال التواصل ، وتركنى عند بدء الظلام والظلام ظلمة . كأننا مخلوقات زئبقية تستطيل أمامنا مسافات الألم ، فينبعث فى الظلام ، فى النوم ، فى النكات الساخرة ، لكأن الحزن مقيم معنا دائما ، نندفع بلا هوادة محاولين اختصار المسافات غير مدركين أننا ننفلت حين تسبح بنا الأحلام .. ونتمدد على أول الدرب كل صباح . حاولت السير رغم قيودى . لم يندهش الولد . بل وضع فوق كاهلى الطوب والحصى . فى خلواتى يقول هئ ، وينسحب ساخرا . أمسكت بياقته .. كدت أتفل فى وجهه قائلا : لماذا تجرجرنى فى صحراء تعرف خطواتى ولا تجيب ؛ فما رد ، إنما فتح أمامى مغارات سوداء ، ورؤى كابوسية . قال : أنت فى البدء فاتحد . ولا تسلم ذاتك لدق المسامير . ذاكرتك أول الطريق للهلاك ؛ كنت واضعا يدى أسفل ذقنى غائصا فى تقاطيع الطاهر التى تشبه الولد . واضح أن الطاهر وقع فى فخاخ الدفء والعيال وأفاق هو الآخر على حصير فرش فوق حصى وزلط وحجارة مدببة . أداعب فيه الصبى الذى رافقته دافعا إليه ماء التجلى . أشده من وهدة التقوقع والتساؤل ، فتبين منه ابتسامة هازئة . قال : ماعليك إذا تركتنى ما أنقصتنى ، وإذا مددت يديك ما نجدتنى . قلت : الدور إياه . قال : أنت تعرف سر بلائى أوشكت أيام المرضى على الانتهاء . ضحكت .
كأنه تعاقد مع الإفاقة بانقضاء الأيام . وكل يوم تفر منى الأيام تاركة أشعة باهتة تضيف إلى ضباب الرؤى ؛ رؤى مهشمة ، أحلاما ؛ نواقيس خطر تتأهب لافتراسى . دبيب الشيب يتسحب قطا بريا يفاجئنى صدفة فى المرآة . أنت يا صديقى الشيب ملأت هوامش النفس . تفتح كل يوم حوارات جديدة تحت عجلات الحضور والانصراف والتلاميذ على مقاعدهم يكتبون البراءة ، يرسمون صورة لوطن تجلى دفعة واحدة .
أنا الواقف فى الطابور لم أزل . لم أتقدم للأمام أو الوراء . فقط أسير فى المكان ناظرا حولى بعدما نزلت زوجتى إلى النسوة زوجات إخوتى .. وبقيت ندى تنشر شغبها الوردى معلنة عن حضور فذ ، قائمة بأدوار عدة ، كى تلفت انتباهنا ـ أنا والطاهر ـ كنا قد صعدنا إلى جبل عال ، أشرفنا على الهاوية . متشبثين بندى وحمادة وشيماء معلنين إفلاسنا .
فى تلك الأوقات دخنت سيجارة والطاهر رفض التدخين ، رغم أنه يجارينى أحيانا .
لا أعرف للآن سر شراهتى للسجائر . كنت إلى وقت قريب أدخن المعسل والطاهر يشاركنى . كأنه عشق القرويين أمثالنا . ربما يرجع السر إلى اكتشافى الأخير . كثرت التكهنات . إذا كان التحليل إيجابيا فلا ضير . أهلا سيدى الفناء الجميل . قال صديقى الشاعر لآخر تجاوز الثمانين [ جميل هو الموت لك ] ولم يمت ؛ وقد تجاوز ـ الآن ـ التسعين .
سأل الطاهر عن مشروعاتى : سكت ولمن أقل أننى أخطط بطريقة محكمة . رؤية ساخرة تشكل بحميمية نهايتى المتوقعة .
أوعز الطاهر لى ونحن فى انتظار القطار ليلا كى يعود إلى شبرا ومنها إلى مسطرد قائلا : أكتب حكايتى . قلت : لا أكتب حكايات أحد .. فقط تنفتح الرؤى الغائمة على عالم أكثر غيوما قاحلا ، فجا لا أرتاح إليه . قال : عالمنا واحد ، فلا تتفلسف خذ طينة بينة وشكلها .. تذكرت الطير الموزع على جبلين ، مختلط اللحم والدم والملامح . إذا ناديت . لن يأتى سعيا . كان متعبا ، ولم يطل ولم أناقش حتى طواه الليل والقطار فى المساء من ذلك اليوم .. كتبت أوراقا كثيرة ومزقتها عن بدء الولد .. ضياعه فى معمل التحاليل بين تكهنات وآراء متناقضة .. حوادث صغيرة تجثم على الروح . ولم أفلح فى خلق علاقات واضحة .
أدور فى أركان غرفتى ناظرا تارة للبعيد وأخرى لهالات دخان سجائرى . أدخل مع أنفاس السجائر إلى أعماقى ، شاعرا أن خنجرا ينتظر ـ منى ـ إغفاءة أو بدونها سيلتحم غائصا ، مسربا سمه اللذيذ إلى الجسد ، فيرتخى تماما .. تماما . يمسك بالصغيرة ندى . يودع أمه وزوجته وإخوته وآخر خيوط الحياة .
فى المرة التى لم يستطع تحديد رقمها . استقرت البداية آخذة مسوح الحقيقة ، لابسة نمنمات الوجوه التى ترغب فى الانعتاق من ظلمة النسيان .
كان الطاهر ساحبا خيط البداية . يدور ويلف ، يخبط رأسه فى حوائط صلبة لا ترتاح إلى دق المسامير . فلما تعب أسلمنى طرف الخيط : وفرّ ؛ فى قطار العاشرة والثلث ليلا إلى صقيع حياته ؛ موقنا أنى لن أفلت الخيط . لذلك لم يحاول مجادلتى . إنما أوقفنى أمامه فى غرفتى ؛ قلت أتملى .. فتمليت .. إذا هم ينهضون فاتحين أعينهم صوب الوراء تارة وصوب التخوم البعيدة . كأن لمعانا يشبه البريق ، يتراوح بين السطوع والخفوت . يرمينى أحدهم بنظرة قاسية كأنه يتوعدنى . ينشغل الباقون .
بعدما انشغلت يإشعال سيجارتى ، كانوا قد اشتبكوا مع بعضهم فى عراك محتد . رمتنى زنوبة بنظرة ذات معنى فارتبكت لحظة ثم تشاغلت .
أمسكت هى خيوط اللعبة واختفت .
أخذو يهمهمون عن اختفائها ، ويطالبون بضرورة حضورها كى تكتمل الحكاية . ولأنى كنت أدرك ـ بحكمة باطنية ـ أنها اختفت كى تفسد عليهم مجلسهم . وتشغلهم من جديد .. فقد وليت وجهى تجاه ظلام بدأ ينادينى تركتهم فى غرفتى على حالهم . وتركت الأوراق ملقاة بلا نظام . قلمى على كوميدينو لبنى مغطى بزجاج سميك . تبين من تحته زهورا باهتا ، ومن فوقه طفاية وولاعة وأعقاب سجائر .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نقلا عن منتدى القصة العربية
لمشاهدة الموضوع كاملا .. اضغط على الرابط التالى
http://www.arabicstory.net/forum/index.php?showtopic=13649

No comments: