Thursday, May 3, 2007

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ المهدي



كان الرجل مهدياً .
يقتل القتيل" ويتاويه " دون أن يرمش له جفن .. أليس هو من صاحب أولاد الليل .. يقال أنه شيخ منسر .. كل الناس تعرف المهدي
إلى أن جاء يوم نظر ولده الوحيد عطية بعد خمس بنات وكان قد دعا الله فأعطاه عطية لف به شوارع القرية على كتفه . الولد قرة العين وبهجة الروح يسر الناظرين قال المهدي الحمد لله ..
واهتدى ..
..
في صباح جديد . كانت إشاعات تملأ البلدة ، بأن المهدي حفر داره القديمة كي يقيم جدرانها فوجد تحتها كنزاً ..
زلعة مملوءة بجنيهات ذهبية خالصة
قيل : كان جده غنياً ..
حكايات كثيرة أكد المهدي صدقها جميعاً وسار ضاحكاً لكنه يعرف أن كنزه هو ثمن ما اقترفه من معاص في أيامه الغابرة ..
..
إلى أن جاء يوم
تغير كل شئ وأبان وجهه الكئيب .
بات ليالٍ بعيداً عنها .. لا يذكر بدء حملها في عطية . لو كانت على قيد الحياة لسألها تلك الملامح ، أليست قريبة منه ؟؟؟ !
كاد المهدي أن ينقطع عن الأكل والكلام والصلاة وعطية يعود كل مساء مسطولاً .. فيتملاه طويلاً باحثاً في وجهه عن علامات تقرب بينهما .
ما أبشع وسوسات الشياطين
يقتلني ؟؟ !
انتفض المهدي فاتحاً فمه ضاغطاً بفكيه على بعضهما . لم يبرحه الشرود والدهشة بعدما سمع ذلك . ليته يضرب . يسرق .. يقتل . أهون عليه من الموت الذي هو فيه .. لكنه استعاذ في البداية ــ مجرد ترديد ــ لعله يفيق .. كرر الاستعاذة . فدب داخله نشاطاً لا يعرف كيف تملكه فقام وتوضأ .. وصلى ..
أخذته نوبة من الصفاء الحزين بعدما أكثر من القيام والسجود والتسبيح . كأنه سمــــع
[ إن كان والدك حقاً لن يقتلك يا مهدي ]
قال لنفسه : وإن قتلني يكون جزاء لأيامي الغابرة .
جزاء العيون الساهرة التي تنتظر نوم الغافلين .. ملثم الوجه يسير أمامهم وهم خلفه يخترقون هدوء البلدة . يشهر بندقيته في وجه الخوف الذي استقر في القلوب . يعود الخفراء من الطريق معلنين أمام العمدة ضياع الأثر والبهائم تحت ضوء القمر ، تخترق عيونهم . لكنهم يعودون عند سماعهم أمر المهدي
: ارجعوا .
الآن ينتظر المهدي لحظة خلاصه .. يسقط في جب قلقه لا يعرف هل يضم عطية إلى صدره . أم يقتله قبل أن ……
..
تلك الليلة تمادى عطية في شد أنفاس المعسل مطلقاً .

الدخان الأزرق ليملأ الجدران والبلدة .
العيون تنتظر أن يخرج حافظته ، ولما لم يفعل
قالوا : عطية لا تأتِ إلي مجلسنا .. ولم يفهم .
قالوا : عندما تصبح رجلاً وحافظتك بها نقود . دار كالثور صارخاً ــ برغم عمره الذي لم يتجاوز العشرين ــ أنا رجل يا أهل طاروط . وابن المهدي . ومن يرى غير ذلك يريني نفسه
ــ رجل بدون حافظة ؟ .. بدون جنيهات ؟ !
ترك مجلسهم الصاخب . وخيبته تلاحقه قال في الطريق لنفسه : هو عقبتى الوحيدة .
..
البندقية المعلقة في مكانها يعلوها غبار الأيام .
البندقية المعلقة تتلامسها يد مرتجفة .
تخدش صمتها الطويل عنوة .
السلم الذي يتوسط صحن الدار ،
كان رقيباً وحكماً
عند أعلاه وقف المهدي عوداً منتصباً ــ فقط ــ مخوخاً من داخله ينظر إلى عطية وقد رفع البندقية مصوباً نحوه
ــ سأقتلك
ــ اقتلني
ــ أعطني ما أحتاج
ــ لن أعطك مليماً
ــ أليس ما تملك في النهاية لي
ــ بعد موتي
ــ أنت الذي تجبرني
ــ أضغط يا ولد على الزناد .. كل شئ لك
انسحبت الدموع من عيني المهدي
زيَّق السلم تحت قدميه كأنه يحفز الولد .
جنون ما تملك المهدي وتسرب من بين شفتيه ، إلى البندقية أن تنطق
ما الذي أفقد عطية صلابته ؟! كيف انتصب المهدي ــ أمام عينيه ــ رويداً .. رويداً ، جملاً حنوناً .. ينخ ليركب عطية .. يدور به في أنحاء البلدة .. حنين .. حزن .. مكابرة .. خوف .واهتزاز .
كان الاهتزاز واضحاً مشدوداً من الداخل بالبكاء .. احتقن الحلق . وفرت دمعة .
طلعت من أعماق المهدي آهة عميقة مع اهتزاز ولده الضعيف الباكي .
وسقطت البندقية .
لم يكن المهدي خائفاً من الموت
كان الولد يهتز ، في كل هزة يحتضن أبيه أكثر .. احتضان حميم .. دافئ .. يسقط الوسواس في بئر مظلم .


No comments: